«الحرية والمواطنة».. كانت شعار مؤتمر الأزهر، الذى عقد الأسبوع الماضى، بمشاركة دولية وعربية واسعة، وكانت المشاركة الأكبر من لبنان الشقيق
«الحرية والمواطنة».. كانت شعار مؤتمر الأزهر، الذى عقد الأسبوع الماضى، بمشاركة دولية وعربية واسعة، وكانت المشاركة الأكبر من لبنان الشقيق، حيث حضر الرئيس اللبنانى السابق «أمين الجميل»، ورئيس الوزراء السابق «فؤاد السنيورة»، فضلاً عن أحد السادة الوزراء اللبنانيين، قرأ فى جلسة الختام كلمة الرئيس اللبنانى العماد «ميشيل عون»، كان الحضور الثقافى اللبنانى الكثيف ملحوظاً ومبرراً، ذلك أن لبنان يمتلك تجربة فى التعايش المشترك بين مكوناته الطائفية والمذهبية، رغم المحن والظروف العاتية التى مر بها، ولعل أخطرها كانت الحرب الأهلية التى نشبت سنة 1975، ودامت حتى 1989، حين انتهت باتفاق الطائف، وأكدت تلك الحرب لجميع الفرقاء، فى لبنان والمنطقة كلها، أن لا بديل عن العيش المشترك، وأن الأوطان والمجتمعات لا تبنى بفريق أو طرف واحد، وأن استبعاد مكون سكانى من المجتمع مستحيل، اللافت فى المؤتمر، أيضاً، هو أن كلمة الافتتاح كانت لفضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب، وقداسة البابا تواضروس الثانى، فى إشارة أدركها الحضور، خاصة غير المصريين، إلى أن مصر تقوم على قاعدة المواطنة الكاملة، غير المنقوصة.
وكان البيان الختامى، الذى ألقاه فضيلة الإمام الأكبر، وفياً وملتزماً، بموضوعه الأساسى الذى عُقد من أجله: «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل»، وذلك أن البعض راحوا ينتقدون المؤتمر، إذ تصوروا أنه كان يجب أن يتناول كل مشكلاتنا وقضايانا الأخرى.
وحين تذكر كلمات مثل الحرية، ومثل المواطنة، فهذا يعنى بالضرورة، التساؤل عن الدولة وطبيعتها، هل هى دولة تراعى المواطنة، وتحكم بين أفرادها وفقاً لهذه القاعدة، أم أنها دولة طائفية ومذهبية.. تميز بين أفرادها وفقاً لانتمائهم المذهبى والطائفى، أم هى دولة أمة وشعب.. ؟، وهل هى دولة دينية تمايز وتنحاز لفريق من المواطنين أتباع ديانة بعينها على حساب المواطنين من الديانات الأخرى؟، حيث يجرى تهميشهم، وحرمانهم من ممارسة حقوقهم السياسية والدينية والاجتماعية؟، وهل تكون دولة حزبية، تقصر خدماتها وامتيازاتها على أبناء الحزب الحاكم، وتهدر حقوق من هم ليسوا أعضاء بذلك الحزب، وتنكل بخصومه..؟، هل هى دولة الأهل والعشيرة، كما حاول الرئيس السابق محمد مرسى أن يفعل فى مصر والمصريين، على مدى عام كامل؟؟، وهل هى دولة أممية؟، تسعى إلى التوسع والاعتداء على الدول والبلدان الأخرى بالاحتلال المباشر، وتقويض الأوطان، إن أمكن، أو بالتدخل فى شئونها وتجنيد أنصار أو عملاء لها داخل الدول الأخرى، يبشرون بمقدمها وسيادة نموذجها..؟، وقد عرف هذا النموذج من قبل فى التاريخ القديم وفى التاريخ الحديث، بل وفى واقعنا المعاصر.
ولا تتوقف التساؤلات والافتراضات حول هوية الدولة ودورها فى المجتمع،
والحق أن بيان الأزهر كان حاسماً فى هذه القضية، حيث انتصر بوضوح للدولة الوطنية الدستورية، وجوداً ودوراً، جاء فى البيان، البند ثانياً، نصاً: «إن أول عوامل التماسك وتعزيز الإرادة المشتركة، يتمثل فى الدولة الوطنية الدستورية القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحكم القانون»، ويصل البيان إلى أن وجود الدولة ونجاحها، مرتبط بمفهوم المواطنة.. «إن استبعاد مفهوم المواطنة، بوصفه عقداً ببن المواطنين.. مجتمعات ودولاً، يؤدى إلى فشل الدولة، وفشل المؤسسات الدينية والنخب الثقافية والسياسية، وضرب التنمية والتقدم، وتمكين المتربصين بالدولة والاستقرار من العبث بمصائر الأوطان ومقدراتها».
وفى البيان، البند الرابع، نصاً «إن حماية المواطنين فى حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم وسائر حقوق مواطنتهم وكرامتهم وإنسانياتهم، صارت الواجب الأول للدول الوطنية التى لا يصح إعفاؤها منها»، ويضيف البيان: «ولا ينبغى بأى حال من الأحوال مزاحمة الدولة فى أداء هذا الواجب، أياً كان نوع المزاحمة»، ثم يقول كذلك: «إن ضعف الدولة يؤدى إلى انتهاك حقوق مواطنيها، وأن قوتها هى قوة مواطنيها».
ومن تابع المؤتمر، سوف يجد أن الحضور كان بالدرجة الأولى إسلامياً - مسيحياً، ليس مصرياً ولا عربياً فقط، بل وعالمياً أيضاً، لم يكن من الصعب أن نلاحظ وجود عدد من رجال الدين الشيعة بزيهم المعروف، بل إن رئيس المجلس الشيعى الأعلى فى لبنان، ألقى كلمة فى الجلسة الافتتاحية، كانت ذات شق دينى، يدعو إلى التوحد والإخاء، وشق سياسى، يطالب بوضع حد للتباين المذهبى فى المنطقة، لكن البيان لم يقتصر على هذا الحضور فقط، ورد به، البند سادساً، عبارة تستحق التوقف، إذ تدعو إلى التعايش بين الجميع داخل المنطقة، يتحدث البيان عن أن طموح الأزهر ومجلس حكماء المسلمين للمؤتمر، هو «التأسيس لشراكة متجددة، أو عقد مستأنف بين المواطنين العرب كافة، مسلمين ومسيحيين وغيرهم من ذوى الانتماءات الأخرى، يقوم على التفاهم والاعتراف المتبادل والمواطنة والحرية».
أشار البيان إلى المسلمين والمسيحيين، لكنه يرى أنهم ليسوا وحدهم، كل أبناء المجتمعات العربية، هناك آخرون ليسوا بمسلمين ولا مسيحيين، سماهم البيان «ذوى الانتماءات الأخرى»، لم يستعمل البيان كلمة «ذوى الاعتقادات الأخرى»، حتى لا يكون الأمر مقتصراً على التعدد والتنوع الدينى فقط، بل تركها مفتوحة، لتشمل كل أشكال التعدد والتنوع، أى التعدد العرقى والثقافى، وليس الدينى والمذهبى فقط، هؤلاء جميعاً يريد البيان أن يجمعهم «شراكة متجددة أو عقد مستأنف»، يقوم على المواطنة والحرية، وذلك لا يتأتى بدون اعتراف متبادل، وبدون دولة وطنية.
ويكمل البيان: «وما نذهب إليه فى هذا الشأن، ليس خياراً حسناً فقط، بل هو ضرورة حياة وتطور لمجتمعاتنا ودولنا..»، أى أن الشراكة المتجددة والمواطنة والحريات، ليست مجرد اختيار مطروح للمفاضلة، بل هى ضرورة حياة، وحين تفعل الدولة ذلك، هنا تكون بالضرورة دولة مدنية وحديثة.
ومن المهم التذكير بأن هذا المؤتمر، عقد تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية، واستقبل السيد الرئيس الإمام الأكبر قبل انعقاد المؤتمر مباشرة، وفى الجلسة الافتتاحية، كان الرئيس السابق المستشار الجليل «عدلى منصور» فى مقدمة الحضور، وكان حاضراً الجلسة الختامية، وألقى كلمة رصينة كعادته دائماً، والمعنى فى هذا كله أن بيان المؤتمر يصبح وثيقة، ليست من وثائق الأزهر فقط، بل من وثائق الدولة المصرية، تساهم فى تحديد استيراتيجيتها وهويتها السياسية، دولة وطنية دستورية، تقوم على المواطنة وحماية الحريات وسيادة القانون، أى دولة مدنية حديثة.
نقلا عن صحيفة الوطن
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة