فى خطابه الأول أمام الكونجرس، ركز الرئيس ترامب على العديد من القضايا الداخلية وثلاث قضايا فقط يمكن أن تُعد شأنا خارجيا، وهى استمرار التعاون مع حلف الناتو
فى خطابه الأول أمام الكونجرس، ركز الرئيس ترامب على العديد من القضايا الداخلية وثلاث قضايا فقط يمكن أن تُعد شأنا خارجيا، وهى استمرار التعاون مع حلف الناتو، والتحالف مع دول إسلامية لسحق داعش، وضبط نظام الهجرة منعا لمرور الأشخاص غير المرغوب فيهم إلى الداخل الأمريكى. لم يأت الخطاب على ذكر روسيا أو الرئيس بوتين، وكأنهما لا يعنيان شيئا لترامب أو للولايات المتحدة. وفى الغالب هو نوع من التجاهل الذى يراعى شروط اللحظة الجارية فى الواقع الأمريكى والتى تركز بشكل غير طبيعى على شيطنة روسيا وجعلها العدو دون منازع وبما يبرر التعامل الخشن معها فى كل المستويات، ومن ثم فمن تجرأ على محادثة أى من مسئوليها أو التقى لأى سبب سفيرها النشيط فى واشنطن سيرغى كسيلياك فعليه أن يدفع الثمن غاليا، إما بوصفه خائنا أو قريبا من هذا، أو أنه تعاون مع بلد الشر ضد المصالح الأمريكية، وعليه أن يُحاصر ولا يُسمح له أن يكون فى أى منصب كان. والمثل الأبرز مايكل فلين المستشار السابق للأمن القومى الذى لم تمتد خدمته سوى ثلاثة أسابيع، بعدها أجُبر على الاستقالة لأنه التقى السفير الروسى مرتين إبان الحملة الانتخابية، تناول فى أحدهما احتمالات رفع العقوبات الأمريكية على روسيا بعد تولى ترامب مهام منصه رسميا.
وهناك أيضا اتهامات لوزير العدل جيف سيشنز بالكذب تحت القسم لأنه لم يذكر لقاءين له مع السفير الروسى أمام لجنة الكونجرس الخاصة بتمرير ترشيحات إدارة ترامب. وهناك لجنة شكلها الكونجرس من أعضاء من الحزبين، من أجل التحقق من مزاعم التدخل الروسى اليكترونيا فى الانتخابات الرئاسية أثرت على فرص المرشحة هيلارى كلينتون.
كل هذه التطورات فى ظل بيئة إعلامية تتسم بالعداء المفرط ضد ترامب والعديد من أعضاء إدارته، ومليئة بالاتهامات غير مباشرة والتلميحات القاسية والشائعات، تفسر الى حد كبير امتناع ترامب عن ذكر أى شىء يخص روسيا ورئيسها فى خطابه أمام الكونجرس، وكأنهما عدوى خبيثة. لكن هذا لا يعنى أن مشكلة العلاقة مع روسيا قد تم تجاوزها. فروسيا سواء وقُعت عليها عقوبات أو رفعت عنها تلك العقوبات ستظل بلدا كبيرا ومؤثرا فى السياسة الدولية وفى العديد من الأزمات والصراعات الدولية والإقليمية التى تتداخل مع مصالح أمريكية وغربية سواء تحرك البيت الأبيض، أو فضل التريث، أو تقاعس تماما عن فعل أى شىء.
الأمر على هذا النحو شكل نوعا من الإحباط للمسئولين الروس وللرئيس بوتين شخصيا. ففى موسكو التى تضربها الحيرة الآن، كانت هناك آمال عريضة بأن يكون عهد الرئيس ترامب عهدا مختلفا عن عهد سابقه أوباما، وأن يشهد نقلة نوعية تؤسس لتعاون بين البلدين فى مجالات مختلفة، وأن يتراجع حلف الناتو عن سياساته المتجهة شرقا بهدف احتواء روسيا ومحاصرتها جغرافيا وعسكريا، وأن تُلغى العقوبات الأمريكية والغربية، وأن يحدث تعاون عسكرى وسياسى لمواجهة الإرهاب وتنظيم داعش والتنسيق من أجل تسريع حل سياسى للأزمة السورية، واستمرار التفاوض بشأن تخفيض الترسانات النووية لدى البلدين ومد أجل عمل اتفاقية خفض الأسلحة الاستراتيجية المعروفة باسم ستارت 3 والموقعة فى 2011 والتى ينتهى العمل بها فى فبراير 2018، وغير ذلك من القضايا المشتركة.
كل هذه الآمال الروسية باتت فى مهب الريح، فالضغوط الداخلية إعلاميا واستخباراتيا على ترامب وإدارته تحول دون اتخاذ أى خطوة ذات طابع إيجابى تجاه روسيا. بل العكس هو المنتظر وبقوة. فإلغاء العقوبات والتعاون مع الرئيس بوتين اللذيْن بشر بهما ترامب أثناء الحملة الانتخابية أصبحا الآن مرهونيْن بشروط أمريكية متحركة، تزداد كل يوم وبدون سقف. ومن تلك الشروط أن يتعاون الروس فى خفض الأسلحة النووية حسب قول ترامب نفسه ولكن دون تحديد آلية لذلك، وبالانسحاب من شبه جزيرة القرم والتوقف عن دعم الانفصاليين فى أوكرانيا، وأن يثبت عدم ضلوع موسكو بأى أنشطة تمس الديمقراطية الأمريكية، وألا تتدخل فى أى انتخابات أوروبية، أى الانتظار الى ما بعد انتهاء تحقيق الكونجرس والذى لا يعلم أحد متى ينتهى. أما التعاون العسكرى لدحر داعش فى سوريا فليس مقبولا من البنتاجون ولا الاستخبارات الأمريكية، وإن حدث شىء فسيكون فى أقل المستويات الممكنة.
لقد استطاعت شبكة المصالح السياسية والعسكرية والاستخبارية أن تعيد تأهيل الرئيس ترامب بحيث يتراجع عن كل مقولاته الانتخابية بشأن روسيا والرئيس بوتين، والتى شكلت عنصرا بارزا فى التباين مع المرشحة كلينتون، وبدلا من الإعجاب الشديد بشخص بوتين أصبح التنصل من الاتصال به أو الحديث معه عنصرا مهما لنفى الشائعات ودرء الضغوط، بل وتوضع شروط قاسية للعلاقة مع موسكو ومسئوليها، وفى النهاية ستظل روسيا العدو الكبير الذى يبرر المزيد من الانفاق على الأسلحة الأمريكية الفتاكة.
*نقلاً عن " الأهرام "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة