في معظم الأحيان نحتاج لتذكّر قاعدتين في صخب عالمنا بمؤسساته المختلفة حتى لا تضيع بنا الخطوات ونُدْخِل أنفسنا أنفاقاً مظلمة، لا يبدو لها من آخر
في معظم الأحيان نحتاج لتذكّر قاعدتين في صخب عالمنا بمؤسساته المختلفة حتى لا تضيع بنا الخطوات ونُدْخِل أنفسنا أنفاقاً مظلمة، لا يبدو لها من آخر، الأولى تقول: «لا تحاول إعادة اختراع العجلة»، فأغلب ما تحتاج إليه موجود أمامك في أي مؤسسة لها «تاريخ» من المنجزات، ولست بحاجة للبحث عن اختراع شيء غير مسبوق ما لم تكن له حاجة قصوى وطارئة، وإنْ اعتمدتَ هذه، فمن الضرورة بمكان أن تُتْبِعها بالثانية، التي تقول:«ما لم يكن مكسوراً و إلا فلا تُصلحه»، شكراً لأنك لم تُعِد اختراع العجلة، لكن لا بد أن تجعلنا نشكرك، لأنك لم تَقُم بإصلاح مالا يوجد به عيب أصلاً !
القادمون الجُدَد في الأغلب لإدارة أي مؤسسة يريدون أن ينتبه الناس لهم، أن يشعر الموظفون بأنّ هذا المدير ليس كسابقيه، وأنّ بصماته لا بد أن تكون عاجلة وواضحة
إنّ الدول التي تكون في حالة حرب، ويُشرِق عليها صباح القصف، وينام بضواحيها ظلام الخوف وفقدان الأمان لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تقوم بها مشاريع تنمية حقيقية، فافتقاد الأمان يجعل همّ الإنسان «الأوحد» هو البقاء بأي صورة وذلك ينسحب على كل أشكال التجمعات الإنسانية صَغُرَت أم كَبُرَت، وما المؤسسات إلا شكل منها تنطبق عليه هذه القاعدة الكونية التي لا تتغيّر، فإنْ غاب بها الأمن الوظيفي فلا تبحث عن إنجاز أو نمو أعمال أو رضا متعاملين، وإنْ وُجِدَ ذلك فلك الحق حينها في الرفع من سقف طموحاتك والرهان على كفاءة من بها واكتمال ما بها!
القادمون الجُدَد في الأغلب لإدارة أي مؤسسة يريدون أن ينتبه الناس لهم، أن يشعر الموظفون بأنّ هذا المدير ليس كسابقيه، وأنّ بصماته لا بد أن تكون عاجلة وواضحة وتنتزع التصفيق له انتزاعاً، لذا يكون البحث عن إنجاز سريع أشبه ما يكون بمصباح علاء الدين لكي يخلق تلك «الهُلّيلة» المطلوبة، والطريف أنّ أبسط ما يتم «شن الغارة» عليه للصعود فوق جُثّته تحت دعوى إصلاحه حتى لو لم يكن معطوباً، والذي يكون دوماً الضحية الجاهزة لأغلب «المتحمسين»، الذين لا يبدو أنهم يرون شيئاً آخر سواه هو: الهيكل التنظيمي للمؤسسة!
ما يُفترَض من كل مسؤول جديد يأتي مؤسسة جديدة أو يُعيّن فيها المسؤول الأول أن يكبح جماح تلك النزعة الملتهبة لعمل «أي تغيير»
الهيكل التنظيمي يوضع تحت مشرط الجراحين بدءاً من المسؤول الجديد ومروراً بفئة «الحواريين» المحيطين به، والذين يؤكدون جميعهم أنّه لا بد من إصلاح هذا الهيكل وإلا فإن مستقبل المؤسسة سيكون منعدماً، فتكثر الاجتماعات وتكثر معها العيون الجائعة لخلق إدارة من لا شيء للحصول على منصب مديرها أو تحوير مصفوفة السلطة لاستحداث وظائف لعيون «الحبايب» من الربع والمقرّبين وإلغاء أخرى في تصفية حساب مع شخص آخر، ويتمادى العبث حتى تختلط الأقسام ببعضها وتتداخل مسؤولياتها ويضيع الموظفون في تلك الفوضى التي لا يستطيعون انتقادها علناً حتى لا يسبق عليهم سيف الحجّاج، فتتأثر إنتاجيتهم وتحتقن بيئة العمل الداخلية وتتهاوى معدلات رضا العملاء عن خدمات المؤسسة كونها نتيجة طبيعية لتلك المغامرة التي لا معنى لها!
ما يُفترَض من كل مسؤول جديد يأتي مؤسسة جديدة أو يُعيّن فيها المسؤول الأول أن يكبح جماح تلك النزعة الملتهبة لعمل «أي تغيير»، فالتغيير ليس ترفاً بل هي مهمة عالية التعقيد وشديدة الإرباك وما لم يكن لدى الشخص تصور متكامل عن أهلية المؤسسة واستعدادها للتغيير Organizational Readiness for Change و إلا فمن الأَولى والأسلم التريّث وعدم الانسياق مع تشجيع البعض للبدء بغربلة الهيكلة، فآخر ما تتمناه لنفسك أن تُفْسِد أمور المؤسسة، بدلاً مِن أنْ «تِتْيَمَّل» وأن تكون جسراً يتكسّب به البعض بطريقة ملتوية أو يصفّي حساباته مع آخرين تحت مظلة تعديل الهيكل وكأنّ هذه المؤسسة كانت متوقفة عن العمل تماماً طيلة سنواتها السابقة!
من خلال مسح مكثف لشركة McKinsey & Co وُجِد أن نسبة مبادرات التغيير المؤسسية الناجحة لا تتعدى 30%، وهو الأمر الذي أيّدته دراسة بحثية لمجلة Harvard Business Review الشهيرة، بينما يشير مسح آخر لشركة Towers Watson بأنّ تلك النسبة لا تتجاوز 25%، هنا نحن نتحدث عن مؤسسات ربحية لديها اشتراطات عالية الصرامة في تعيين واختيار موظفيها ولديها استراتيجيات واضحة وخطط أعمال مفصلة ومؤشرات أداء دقيقة ومحاسبة لا تعرف المجاملات ورغم ذلك فإن نسبة الفشل عالية للغاية، لأن التغيير تجربة تتصادم في الأغلب مع الطبيعة البشرية التي تميل لبقاء الأمور كما كانت حتى يسهل دوماً التنبؤ بمخرجاتها المستقبلية.
إعادة الهيكلة تنطوي على تغيير كبير والناس بطبيعتهم يفضلون بقاء الأمور كما هي، وإن لم يكن التغيير ضرورياً وإلا فإن الثبات هو الضرورة
إن كان الوضع كذلك في عالم المؤسسات الرائدة التي تسيطر على اقتصاد العالم فماذا عسانا أن نقول عن مؤسسات خدمية لدينا ما زال كثير منها يعاني في التأقلم مع نزعة التطوير المؤسسي لافتقادها للكثير من المقومات وتحديداً في أهلية بعض عناصر المكوّن البشري بها، بالتأكيد فإنّ نسبة فشل مبادرات التغيير المؤسسي، والتي تأتي إعادة الهيكلة على رأس قائمتها ستكون أكبر، والمؤلم أكثر أنّ الفشل أو التعثر في هذه المبادرات لن يكون نتيجته خسارة حصة سوقية أو انحسار طلب على منتج معين كما هو الحال في المؤسسات الربحية، ولكن ستكون الخسارة ممثلة بافتقاد المجتمع المحلي لخدمات تلك المؤسسة أو تقلّصها أو انحدار جودتها وهي أمور كان بالإمكان تلافيها لو ترك البعض ذلك الشغف غير المبرر للبدء من الصفر!
إعادة الهيكلة تنطوي على تغيير كبير والناس بطبيعتهم يفضلون بقاء الأمور كما هي، وإن لم يكن التغيير ضرورياً وإلا فإن الثبات هو الضرورة، اتركوا الهياكل التنظيمية مؤقتاً حتى تتعرّفوا على كامل الصورة بأنفسكم دون وصاية أو معلومات «منتقاة» لغاية في نفس يعقوب من آخرين، وراقبوا إنتاجية الموظفين و أين بالإمكان أن تتدخلوا لإزالة العقبات التي تواجههم، ودعوا الحلول الراديكالية الجذرية فهي لا تأتي بنتائج أفضل إطلاقاً، سيأتي التعديل لاحقاً بطريقة سلسة، بعد أن يتم وضع مؤشرات قياس فعالة للعمليات القائمة، أمّا قضية نسف كل شيء، والبدء من جديد، فهي مغامرة خطرة لا ضرورة لها، فلا حاجة إطلاقاً لإعادة اختراع العجلة ولا معنى لمحاولة إصلاح شيء غير معطوب أصلاً !
*نقلاً عن " البيان "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة