"داعش" بعد مقتل "البغدادي".. قراءة مستقبلية
سوف يغير تنظيم داعش من تكتيكاته العسكرية خلال الفترة المقبلة واستراتيجيته التي أدت إلى انحساره أولا ومقتل خليفته ثانيا
لا أحد يمكن أن ينكر حجم الإنجاز العسكري الذي تحقق بمقتل رأس تنظيم داعش أو الملقب بخليفة التنظيم الأكثر تطرفًا في المنطقة العربية، أبوبكر البغدادي، خاصة أنه تحقق بعد فترة من إعلان سقوط الخلافة المزعومة التي أقامها في العراق والموصل، وأعلن عن سقوطها رسميًا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 22 مارس/آذار من العام الجاري.
ولعل مقتل الرجل الأول في تنظيم داعش هو الحدث الأهم والأكبر بعد انهيار دولة "داعش" جغرافيًا مطلع العام الجاري، وهو ما يطرح عدة تساؤلات لها علاقة بمستقبل "التنظيم" بعد قطع رأسه في عملية عسكرية أمريكية أشرف عليها الرئيس الأمريكي بنفسه في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه.
لفهم مستقبل تنظيم داعش بعد مقتل زعيمه الأول وخليفته أبوبكر البغدادي، الذي شارك في تأسيسه قبل 10 سنوات حتى تم إعلان دولته المزعومة في 29 يونيو/حزيران من عام 2014، لا بد من قراءة هذا المستقبل من زاويتين، إحداهما تتعلق بالتساؤل الذي يطرحه البعض عما إذا كان "التنظيم" منتبهًا لاختيار خليفة لزعيمه "المقتول"، ومدى قدرته على فعل ذلك، أو أن الخليفة نفسه أوصى بخليفة من بعده قبل أن يقتل وقام بتسميته أو على الأقل أشرف على هذا الاختيار.
إن تحقق هذا السيناريو فنحن نتحدث عن "تنظيم" قد ينجح في لململة ما حدث له بسقوط مملكته وزعيمه خلال العام الحالي، هذا الاختيار قد ينقذ "التنظيم" بعض الشيء، ويبقى هنا تكتيك المواجهة القادمة للتنظيم ومدى قدرتها على القضاء على ما تبقى منه.
الزاوية الثانية تتعلق بفشل "التنظيم" في اختيار خليفة لأبوبكر البغدادي، وهو ما سوف يؤدي إلى انهيار كبير له خلال الفترة المقبلة، لأسباب تتعلق بأن قوة "التنظيم" نفسها كانت مرتبطة بالفكرة الأممية التي نشأ عليها وظل متمسكًا بها لفترة طويلة، والتي تتمثل في وجود "خليفة" و"دولة إسلامية"، وهو ما دفع عددا كبيرا من الجماعات والتنظيمات الدينية المتطرفة سواء المحلية أو الإقليمية لإعلان البيعة لتنظيم داعش، انطلاقًا من فهم هذه التنظيمات لبعض ما جاء في التراث الإسلامي وتفسيرهم للحديث الشريف: "من مات ولم يكن في عنقه بيعه مات ميتة الجاهلية"، وهنا فسرت هذه التنظيمات "البيعة" بإعلان البيعة للتنظيم "الوليد" آنذاك "داعش"، وهنا نذكر أن انفراط عقد هذا "التنظيم" سوف يتأثر بسقوطه على الأرض ومقتل زعيمه.
"داعش" وسيناريوهات المستقبل
من الخطأ أن نقصر التعامل مع التنظيمات المتطرفة وفق التصور الأمني والعسكري فقط، معتبرين أن نهاية "التنظيم" تكمن في كونه مشتتًا بعد أن كان مسيطرًا على الأرض، مثال، تنظيم قاعدة الجهاد في أفغانستان و"داعش" في الرقة والموصل، ولا أن القضاء على زعيم كل منهما إيذانا بتلاشي التنظيمات التابعة لهما، فهذه التنظيمات تعيش على أفكارها "الفاسدة" أكثر من العيش على قوتها العسكرية رغم ضعفها، وهنا لا بد أن تكون المواجهة في البدء للأفكار وأن يسير ذلك بالتوازي مع المواجهة الأمنية والعسكرية.
رسم سيناريوهات المستقبل يرتبط بشكل كبير بمدى القدرة في التعامل مع أفكار "التنظيم" المتطرف، ليس هذا فحسب، وإنما بالوقوف أمام أدوات التجنيد وتطويع "التنظيم" للتكنولوجيا، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عندما أعلن مقتل أبوبكر البغدادي، فقال: إن "داعش" يستخدم الكمبيوتر والإنترنت أفضل من دونالد ترامب نفسه! وهو اعتراف يستلزم معالجة مختلفة لنقاط قوة "التنظيم" المتطرف.
فطالما كانت هذه التكنولوجيا ملكا لهذه التنظيمات المتطرفة سواء في عمليات التجنيد أو في تطويع هذه التكنولوجيا في تنفيذ العمليات المسلحة، فسوف تستمر هذه التنظيمات في العمل، وهنا سوف يكون من السابق لأوانه وصف تنظيم داعش بأنه سوف ينهار تمامًا بمقتل زعيمه.
من أهم السيناريوهات المطروحة والخاصة بمستقبل "داعش" تأثر أفرع ما تُسمى الولايات الموجودة في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية، هذه الولايات حتى وإن كانت تعمل بطريقة لا مركزية، إلا أنها أصيبت بخيبة أمل سوف تؤثر على مقاتليها، وربما يُعطي دافعًا أكبر للقوات المحلية والإقليمية في الدول التي تتواجد فيها هذه الولايات بمواجهة أقوى وأكثر صلابه.
سوف يغير تنظيم داعش من تكتيكاته العسكرية خلال الفترة المقبلة واستراتيجيته التي أدت لانحساره أولًا ومقتل خليفته ثانيًا، وهنا تبدو أهمية المعلومات الاستخباراتية التي يمكن الاعتماد عليها في الكشف عن تصورات "داعش" المستقبلية في العواصم التي ينشطون فيها، واستغلال هذه المعلومات في وضع تصورات المواجهة المستقبلية.
لا أحد ينكر ردة فعل ذيول "التنظيم" في أكثر من عاصمة عربية أوروبية على مقتل "البغدادي"، وقد تكون المواجهة أكبر في الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول التي ينشط فيها "التنظيم" بشكل ملحوظ وأغلبها دول عربية، وأن يتم إهداء ردة الفعل هذه كرد فعلي أولي للتنظيم على مقتل أبوبكر البغدادي.
لا أحد يستطيع أن يتنبأ باختفاء "التنظيم" لمجرد خسارته أرضا كان يسيطر عليها أو مقتل قيادات له حتى وإن كانت قيادات رفيعة المستقبل أو نخبة ممن كان يُديرون "التنظيم" أو يُقاتلون في صفوفه، فمن يفهم هذه التنظيمات يُدرك أنها تتعامل بحرفية شديدة مع ما يستجد عليها من أوضاع وهي مؤهله للتعامل معها.
ويجب عدم الاستهانة بتنظيم داعش من هذه الزاوية، فهو ليس تنظيمًا وليدًا وإنما نبت من رحم قاعدة القاعدة واستفاد من تجربة الإخوان الإرهابية التي استمر وجودها أكثر من تسعين عامًا، وهنا لا نرجح وجود تنظيم داعش طيلة هذه السنوات، ولكن لا يمكن أن نقلل من حجم الخصم في الوقت نفسه، وإنما من المهم وضعه في حجمه الطبيعي حتى يتم التعامل معه بحرفية فيصبح جزءا من التاريخ دون وجود حقيقي له على أرض الواقع.
السيناريو الأقرب المبني على تحليل ما أتيح من معلومات وفهم دقيق للتنظيم وسلوكه طيلة السنوات الماضية على مدار مراحل النشأة أنه قد يختفي في غضون 10 سنوات من المواجهة.
إذا كانت المعركة الأمنية والعسكرية مع "التنظيم" استمرت 6 سنوات كاملة وحققت نجاحات تم تكليلها بمقتل أبوبكر البغدادي، فالمعركة الأهم ممثلة في القضاء على أفكاره المؤسسة، وهي ما سوف تأخذ وقتًا أطول نتوقع أن يستمر 10 سنوات قادمة، مع الوضع في الاعتبار أن "التنظيم" ما زالت له ذيول قوية، تعمل وفق خطة قيادته المركزية التي سقطت، هذه الذيول سوف تستمر وقتًا إضافيَا يؤجل حسم المعركة بشكل نهائي مع التنظيم المتطرف.
مواجهة "داعش" بعد مقتل خليفته
للحديث بشكل أعمق عن تصورات المستقبل الخاص بتنظيم داعش لا بد أولًا من وضع خطة مواجهة تكون مختلفة تمامًا عن تلك التي وضعت في السابق عندما كان يُسيطر "التنظيم" على آلاف الكيلومترات، نظرًا لاختلاف المعركة التي أخذت شكلها الأمني والعسكري نظرًا للأهداف المرجوة منها، وتتلخص في تحرير الأرض التي سيطر عليها "التنظيم"، فضلًا عن محاولات استهداف القادة العسكريين للتنظيم المتطرف، وهذا الدور أمني واستخباراتي، ولا يمكن الاستغناء عنه، أما وضع "التنظيم" الآن فأصبح مختلفا ويستلزم شكلا مختلفا من المواجهة.
بكل تأكيد المعركة اختلفت في شكلها ومضمونها بشكل كبير، بحيث أصبح الغالب عليها المواجهة الفكرية والوقوف أمام محاولات إعادة الإنتاج والنشاط للتنظيم، وهنا تبدو المواجهة الأمنية والعسكرية في وضع أقل بكثير مما كانت عليه مقابل شكل آخر من المواجهة، كما أشرنا.
التصور الذي نتحدث عنه لا بد أن يخضع لنقاشات معمقة مع الدول التي ما زال يتواجد فيها "التنظيم"، وما زالت تبذل جهودا عسكرية وأمنية في القضاء عليه، ولا بد أن تقدم الولايات المتحدة والدول الكبرى الدعم السياسي والعسكري اللازم لهذه الدول كما تريد هذه الدول وليس كما تريد الولايات المتحدة.
لا بد من بناء دور تكاملي في مواجهة "داعش" أو الإبقاء على نفس الدور التكاملي عندما نشأ التحالف الدولي المكون من أكثر من ثمانين في مواجهة التنظيم المتطرف حتى نجح في تنفيذ ما هدف إليه؛ فلا فرق بين القضاء على رأس التنظيم وذيوله في بعض العواصم، الخطر واحد، وفهمنا لهذه التنظيمات يجعلنا نقول: إن التنظيم قد يعيد إنتاج نفسه من ذيله حتى لو بترت رأسه، وهنا تبدو مواجهة الذيول بالأهمية أو على القدر نفسه من مواجهة التنظيم ورأسه في الرقة والموصل.
ولا بد أن تخضع المواجهة لحوار طويل ينتهي في النهاية باتفاق بحيث تعمل كل دول العالم في مواجهة خطر "داعش" بشكل متواز وفي الوقت نفسه، وأن تكون هناك تكاملية في الأدوار السياسية والدبلوماسية، فمن غير المفهوم إبقاء الأوضاع السياسية على ما هي عليه من فراغات سياسية في ليبيا واليمن وسوريا، فكل هذه الأوضاع تؤدي لإعادة "التنظيم" مرة جديدة، وإذا حدث فسوف يكون أكثر شراسة مما كان عليه.
على المجتمع الدولي أن يختزل الخطر في تنظيم داعش، بينما يغض الطرف عن التنظيمات المتطرفة الأخرى التي لا تقل في خطورتها عن التنظيم الأكثر عنفًا، بل تمثل بيئة حاضنة ورحما ينتجان هذه الجماعات الإقليمية والمحلية التي تُبايع فيما بعد "داعش"، وهنا لا بد أن تكون المواجهة واحده دون تفريق، وألا يكون هناك استخدام سياسي للتنظيمات المتطرفة سواء من قبل بعض الأنظمة العربية أو بعض الدول الكبرى مهما كانت هذه الدول ومهما كان المبرر، وأن تكون هناك إجراءات عقابية رادعة لمن يفعل ذلك.
إذا وصلنا إلى مرحلة التصور الدقيق لمواجهة "داعش" فسوف نصل حتمًا للمواجهة الحقيقية للتنظيم المتطرف في نسخته الجديدة، ويمكن الحكم على المواجهة بالناجحة حتى قبل أن تحقق أهدافها، ما دون ذلك سوف يكون كمن يحرث في الماء.