أخيرا أصبحت هناك إطلالة ملموسة على "صفقة القرن" بمعنى وجود وثيقة محددة مطروحة للحديث والمناقشة والحوار والقبول والرفض.
أخيرا أصبحت هناك إطلالة ملموسة على "صفقة القرن" بمعنى وجود وثيقة محددة مطروحة للحديث والمناقشة والحوار والقبول والرفض وخاصة من الجانب الفلسطيني الذي ربما آن الأوان لأخذ الموضوع بالجدية التي يستحقها.
ما جري حتى الآن في الشوارع الفلسطينية أثناء وما بعد انعقاد "ورشة العمل" الاقتصادية في العاصمة البحرينية لم يزد عن مجموعة من المظاهرات والهتافات والأحاديث التلفزيونية والكتابة الإلكترونية وإحراق الأعلام الأمريكية والإسرائيلية مع صور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأضيف لما هو معتاد صورة جاريد كوشنر المستشار بالبيت الأبيض وزوج السيدة "إيفانكا" ابنة الرئيس ومستشارة أبيها.
"صفقة القرن" أيا كان معناها باتت قائمة على ثلاثة أبعاد: سياسات للأمر الواقع كما حدث في القدس وهي معروفة، وسياسات اقتصادية وهي الآن مطروحة، وسياسات لاتفاق سلام لا نعرف عنه شيء حتى الآن. ما هو مطلوب عربيا وفلسطينيا هو الاشتباك، وخلق حقائق عربية وفلسطينية على الأرض، بفض الانقسام الفلسطيني
كانت الهتافات عالية، والشعارات موزونة، والتصريحات حارة، والإجماع كبيرا لأول مرة منذ وقت طويل على الساحة الفلسطينية بين جماعة غزة وجماعة رام الله، وبين حماس وفتح، ومن احتفل بحدوث الوحدة بينهما على الأرض.
تم تسجيل الموقف برفض صفقة القرن والتأكيد على أنها ولدت ميتة بل إنه جرى دفنها بالفعل، وعاد الجميع إلى ما كان لديهم من أعمال، وربما الأهم للعيش في الأمر الواقع الفلسطيني البائس والتعيس والمحتل من قبل إسرائيل، والمواجهة معها كل صباح عند نقاط التفتيش أو عند وقوع الهجمات الإسرائيلية على الأحياء الفلسطينية في الضفة أو القصف بالطائرات لأحياء أخرى في غزة انطلقت منها صواريخ أو مر بها قيادات فلسطينية ترى إسرائيل ضرورة تصفيتها. لا شيء يأتي على سبيل السياسة أي القدرة على تغيير الأمر الواقع كما حدث في كل حركات التحرر الوطني السابقة التي أخذت في نقل بلادها من حالة الاحتلال والاستعمار إلى حالة التحرر والاستقلال.
فيما أظن فإن الشعب الفلسطيني ربما يكون هو الشعب الباقي في العالم الذي لم يمارس حقه في تقرير المصير، وبالتأكيد فإن لإسرائيل اليد الطولى في منع هذه الممارسة ليس فقط نتيجة العقيدة الصهيونية التي جعلت قيام دولة إسرائيلية تجسيدا لممارسة اليهود حق تقرير المصير؛ وإنما لأن الانتقال من الفكرة إلى الممارسة قام على حسابات دقيقة لتوازنات القوي الدولية والإقليمية، وخلق الوقائع على الأرض من مجرد فكرة تجري محاولات إقناع القوى الكبرى بها، إلى الهجرات السكانية، إلى وعد بلفور، إلى الحصول على تصديق عصبة الأمم على الوعد، إلى إعلان مشروع الدولة، ثم إعلانها. لكن أهم ما فعلته الحركة الصهيونية هو خلق الحقائق على الأرض في شكل اقتصاد يهودي، وبناء مؤسسات حقيقية، والمدارس والجامعات والمجتمع الأهلي من نقابات وجمعيات..
الفلسطينيون على الجانب الآخر، والقائمون على الأرض لتاريخ طويل، والواقعون في إطار إقليمي عربي وإسلامي، والممارسون مع غيرهم من العرب للنهضة العربية في القرن التاسع عشر، والمتحررون توا من الاحتلال العثماني لم يكن لديهم سوى الرفض والمظاهرات والشعارات وأشكال كثيرة من المقاومة التي لم يزد حصادها التاريخي عن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية وسيطرتها على أجزاء صغيرة من الضفة الغربية، وقيام كيان فلسطيني آخر في قطاع غزة، وكلاهما محاصر وواقع عمليا تحت السيطرة الإسرائيلية.
ضآلة الحصاد وانقسامه ربما يكونان قضية المؤرخين للبحث في الأسباب والمسؤولية التاريخية والمراجعة والتقييم، ولكن أيا ما كان ذلك، فإن الأمر يتطلب حالة من التواضع والشعور بالمسؤولية أمام الأجيال الفلسطينية القادمة. وفي الحقيقة فإنه لا توجد معضلة أو مشكلة أبدا في البحث عن المثالب والنواقص الموجودة في كل المحاولات لحل المعضل الفلسطيني الإسرائيلي؛ لأن كلا منها سوف يتضمن أبعادا غير عادلة، كما أنه سوف يبدو مقارنة بعروض سابقة أكثر ظلما وتعسفا بالحقوق الفلسطينية.
كان قرار التقسيم أقل عدلا من تقرير لجنة "بيل" الذي كان أول من وضع حلا يقوم على دولتين، كما كانت كامب ديفيد المصرية وما تلاها من مقتربات من القضية الفلسطينية أقل عدلا مما كان عليه قرار التقسيم، وعندما وقّع الرئيس عرفات على اتفاق أوسلو كان أقل عدلا ورأفة بالحقوق الفلسطينية مما أبرمه أنور السادات، وبعد أكثر من ربع قرن من اتفاق أسلو فإن ما بقي من الحقائق الفلسطينية على الأرض بات أقل كثيرا مما جرى الاتفاق عليه.
كان الأمر الواقع دائما هو أسوأ ما يحصل عليه الفلسطينيون، وبشكل ما فإن الفلسطينيين لم يتعلموا من دروس الشعوب والأمم الأخرى، فلم يكن قيام "الجمهورية الأيرلندية" ممكنا دون التنازل عن شمال أيرلندا؛ ولا كانت مصر سوف تصل إلى الاستقلال دون القبول بتصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ المعيب والمهين؛ ولا تونس حصلت على الاستقلال دون قبول بورقيبة بما هو أقرب بالحكم الذاتي قبل سنوات من الاستقلال الكامل.
التعامل الفلسطيني مع "صفقة القرن" لم يختلف عن ذلك التعامل مع كل المحاولات الأخرى، ولم يدرك الفلسطينيون أهمية "تفاهمات كلينتون" إلا بعد أن انتهى زمنها الافتراضي، ومن العجب أن حركة حماس التي مزقت الوجود الفلسطيني باتت تستشهد بالمخالفات الإسرائيلية لاتفاق أوسلو وهي التي عملت على هدمه منذ ميلاده بالعمليات العسكرية كلما جرى التقدم خطوة على طريق تطبيقه.
السياسة الفلسطينية كانت عمليا -اللهم ما عدا استثناءات قليلة- تستند إلى استمرار الأمر الواقع الذي هو ليس دولة مستقلة، ولا عاصمة في القدس الشرقية، ولا تنفذ فيها القرارات الدولية ذات الصلة، ولا تحمي ما تبقى من سلطة وطنية فلسطينية، ولا حتى تحمي الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين وهو الحقيقة الوحيدة المجسدة للقضية الفلسطينية في الوقت الراهن.
العجب في الموقف الفلسطيني من ورشة العمل الاقتصادية في المنامة هي أنه أولا لم يتجاوب مع فرصة اقتصادية لدعم وجود الشعب الفلسطيني على أرضه من خلال مجموعة من المشروعات التي لا يمكن تطبيقها إلا إذا قدمت إسرائيل تسهيلات على الأرض لحركة الاستثمار على أرض فلسطين. وهي ثانيا التي تخلق رابطة جغرافية بين الضفة الغربية وقطاع غزة ومن ثم فإنها تنهي عمليا التقسيم الفلسطيني القائم على الأقل بالمعني الديموغرافي والسياسي. وثالثا، فهي لن تطبق حسب نص الوثيقة المقدمة للورشة إلا بعد عقد اتفاق سلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
هكذا.. المسألة سوف تتوقف في كل الأحوال على الموافقة الفلسطينية من عدمها، وكما حدث بالفعل في المنامة أن الدول العربية المشاركة من قبول للحديث حول المبادرة الجديدة جنبا إلى جنب مع التأكيد على المبادرة العربية وحل الدولتين.
ورابعا أن الأمر في اجتماع المنامة لم يكن فلسطينيا إسرائيليا كله، بل كانت هناك أوضاع إقليمية ودولية لا يمكن تجاهلها، ولا يجب على القيادات الفلسطينية بينما تحاول تعويق حل أمريكي للقضية أن تعرض الأمن القومي لدول عربية أخرى للخطر، وتحتاج مواجهته إلى تحالفات وحسابات دقيقة..
التطورات المهمة الجارية في المنطقة، وفي العالم في الحقيقة، منذ مطلع العقد الحالي جعلت الدول العربية وإن كانت حريصة على التوافق مع القيادات الفلسطينية حول ما يخص فلسطين، فإن لديها مصالح أخرى لا تقل أهمية عن تلك الفلسطينية وسواء كانت في الخليج أو في شرق البحر المتوسط أو في البحر الأحمر شماله وجنوبه.
"صفقة القرن" أيا كان معناها باتت قائمة على ثلاثة أبعاد: سياسات للأمر الواقع كما حدث في القدس وهي معروفة، وسياسات اقتصادية وهي الآن مطروحة، وسياسات لاتفاق سلام لا نعرف عنه شيء حتى الآن. ما هو مطلوب عربيا وفلسطينيا هو الاشتباك، وخلق حقائق عربية وفلسطينية على الأرض، بفض الانقسام الفلسطيني، وترجمة علاقات الاعتماد المتبادل الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى سياسات تقوم على المساواة والندية، وترسيم الحدود الفلسطينية العربية كلما أمكن كما هو مطروح في منتدى شرق البحر الأبيض المتوسط. تفاصيل ذلك ربما تكون قصة أخرى تحتاج كل الحكمة والاجتهاد؛ لأنها تعني التفكير فيما لم نتعود التفكير فيه!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة