كانت هناك مدرستان لصناعة وتكوين النخب السياسية في العالم العربي فيما قبل ظهور الجمهوريات هما: الأحزاب السياسية، والتقاليد الملكية.
مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وبروز ظاهرة الثورات العربية على المستعمر الأوروبي، وما صاحبها من التحول من النظم الملكية إلى النظم الجمهورية في العديد من الدول العربية؛ منذ ذلك الحين حدث تغيير هيكلي في عملية صناعة وتشكيل النخب السياسية في العالم العربي، حيث تم التخلص من تقاليد راسخة لصناعة النخب، وحلت محلها وسائل جديدة لا تمت للعمل السياسي بصلةٍ، ولا تنتج سياسيين بقدر ما تفرِّخُ انتهازيين ومقامرين.
العماء الاستراتيجي داء حقيقي؛ لأنه يقود إلى حالة موت السياسة، وتحول العمل السياسي إلى ساحة للانتهازيين والمقامرين الذين يستغلون اللحظات التاريخية لتحقيق مكاسب خاصة لجماعات وتنظيمات يقع الوطن والمواطن في ذيل اهتماماتها.
فقد كانت هناك مدرستان لصناعة وتكوين النخب السياسية في العالم العربي فيما قبل ظهور الجمهوريات هما: الأحزاب السياسية، والتقاليد الملكية، فقد كانت الأحزاب السياسية -في العديد من الدول العربية في ذلك الزمان، وما زالت في العالم الغربي إلى اليوم- هي المدرسة الأولى للتنشئة السياسية، وتربية جيل جديد على ممارسة العملية السياسية بحرفية وإتقان، ورؤية استراتيجية واضحة ودقيقة، تميز بين مستويات المصالح، ودرجات الأهداف، وتعرف بدقة شديدة الفوارق بين الغايات والوسائل في كل ما يتعلق بالمصالح الوطنية القريبة والبعيدة.
وكذلك كانت التقاليد السياسية الراسخة في النظم الملكية، تتشرب الطبقة الحاكمة جيلاً بعد جيل الحكمة السياسية بوسائل طويلة المدى، تتحول إلى ثقافة يومية، ونمط حياة، يقوم عليها مدربون متخصصون؛ كان أولهم الفيلسوف العظيم أرسطو الذي تفرغ لتدريب الإسكندر الأكبر على ممارسة السياسة والحكم، وسارت البيوتات الحاكمة على تلك التقاليد في غالب دول العالم إلى اليوم.
أما بعد ثورات التحرر من الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد تم التخلص من هاتين المدرستين، ولم يتم إيجاد مدارس بديلة، تم إلغاء الأحزاب السياسية، واستبدل بها كيانات صورية تحمل نفس مسمى الحزب، وتقوم بعكس أدواره، حيث تعمل الصورة الجديدة من الأحزاب الأيديولوجية التي نشأت بعد قيام الجمهوريات العربية، وما تلاها من أحزاب كرتونية على إفساد الحياة السياسية من خلال تكوين أجيال من الانتهازيين والمنافقين، والسفسطائيين الذي يعتقدون أن جوهر وجودهم هو خداع الجماهير، وتخديرها لتمرير سياسات معينة، أو لإكساب حاكم معين شرعية ليست مستحقة.
وكان أخطر هذا النوع من الأحزاب تلك التي تبنت إيديولوجية سياسية مغلقة، سواء أكانت قومية بعثية، أو اشتراكية ماركسية، أو إسلامية إخوانية، جميعها كانت من أخطر معاول الهدم في البنية السياسية في العالم العربي، لأنها حولت السياسة من مجال تحقيق مصالح المواطنين إلى مجال خدمة أهداف وهمية خيالية لا وجود لها إلا في عقول قادة هذه الأحزاب، وتحولت معها النخب السياسية من خبراء في فن الممكن إلى كهنة في معبد التمكين.. وهنا بالتحديد أصيبت النخبة بحالة من العماء الاستراتيجي الذي يشبه عماء الألوان، حيث كل الأشياء لون واحد، وكل المصالح والخيارات والأهداف مصلحة واحدة، وخيار واحد، وهدف واحد، وهنا تحديداً تفقد النخبة السياسية دورها لصالح نخب أخرى تأتي من مؤسسات أخرى.
ثلاثة مواقف تعبر عن حالة العماء الاستراتيجي للنخب العربية: أولها موقف حركة الإخوان من تنظيم الضباط الأحرار بعد ثورة 1952، حين تعامل قادة هذا التنظيم بازدراء للضباط الصغار الذين قادوا الثورة، وانحازوا للواء محمد نجيب، وظنوا أن تنظيم الإخوان بخلفيته الجماهيرية المطيعة التي تتحرك بمجرد الإشارة أنه الأقوى أمام مجموعة من الضباط صغار الرتب بدون قاعدة جماهيرية، ودخلوا في صدام شرس مع الضباط الأحرار، وكانت نهايته القضاء على تنظيم الإخوان، وإلغاء الأحزاب، ودخول البلاد في حالة من الحكم الإداري البعيد كل البعد عن العمل السياسي.
والموقف الثاني عندما انحازت النخبة المصرية لتنظيم الإخوان في مرحلة ما بعد مبارك في مصر، اعتقادا منهم أن الإخوان أفضل من حكم المجلس العسكري، ولم يدركوا أن التنظيم الأيديولوجي أخطر من الحكم العسكري، لأن الحكم العسكري بالرغم من افتقاده للمعايير الديمقراطية فإنه يعمل لأهداف وطنية، ويؤمن بالدولة ومؤسساتها، ولكن التنظيم الأيديولوجي فهو في جوهره مفتقد للمعايير الديمقراطية، ولكنه غير وطني؛ لأنه يعمل لمصلحة أيديولوجية عابرة للحدود تتقاطع وتتلاقى مع مصالح دول أخرى، ولا يؤمن بالدولة، ولا بمؤسساتها، ولم يلتفت أحد من النخبة المصرية في ذلك الوقت إلى تجربة الأحزاب الأيديولوجية التي حكمت العراق لصالح المرجعية في إيران بعد سقوط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الأمريكي.
والموقف الثالث هو موقف القوى الشيوعية التي تتحكم في الحراك الثوري في السودان، والتي تطلق على نفسها قوى الحرية والتغيير، والتي تتعامل مع مخرجات الثورة على البشير بنفس منهج تنظيم الإخوان الذي أسقطوه مع البشير، وتحاول أن تستغل الفرصة التاريخية لسرقة الثورة لتحقيق التمكين، فتفرض شروطاً لا علاقة لها بمعايير الديمقراطية، أو الحكم الرشيد تحت عنوان رفض الحكم العسكري، في تكرار أعمى لتجربة الإخوان في مصر بعد ثورة 1952، ولتجربة القوى المدنية بعد إسقاط نظام الرئيس مبارك، في كلتا الحالتين سادت حالة من العماء الاستراتيجي قادت إلى إفقاد الثورة والتغيير جوهرهما، والدخول في دوامة جديدة؛ إما من الحكم العسكري، وإما من حكم الأحزاب الإيديولوجية التي هي في جوهرها أسوأ بمراحل من الحكم العسكري.
العماء الاستراتيجي داء حقيقي لأنه يقود إلى حالة موت السياسة، وتحول العمل السياسي إلى ساحة للانتهازيين والمقامرين الذين يستغلون اللحظات التاريخية لتحقيق مكاسب خاصة لجماعات وتنظيمات يقع الوطن والمواطن في ذيل اهتماماتها.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة