دول أوروبا الرئيسية التي شاركت في عملية التفاوض نظرت إلى الاتفاق على أنه فرصة اقتصادية بالأساس، فإيران لم تشكل بالنسبة لها أي تهديد.
على الرغم مما يبدو أنه استراتيجية أمريكية جديدة حيال إيران أعلنت عناصرها الرئيسية الشهر الماضي إعلان ترامب الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران، ثم إعلان وزير خارجيته قائمة من 12 مطلباً اشترطت واشنطن على طهران الالتزام بها قبل تطبيع العلاقات معها، وعلى الرغم مما يبدو تشدداً محلوظاً في الخطاب الأمريكي حيال إيران وممارسات نظامها، إلا أن ما يبدو أكثر وضوحاً هو أن الولايات المتحدة لا تفضل اللجوء إلى خيار القوة العسكرية لتنفيذ هذه الاستراتيجية نظراً لتكلفته العالية، لا سيما في ضوء الخبرة الأمريكية السلبية التي رسختها تجارب الماضي القريب والبعيد التي شهدت تدخلات مسلحة لأمريكا خارج حدودها، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
دول أوروبا الرئيسية التي شاركت في عملية التفاوض نظرت إلى الاتفاق على أنه فرصة اقتصادية بالأساس، فإيران لم تشكل بالنسبة لها أي تهديد،لذلك تبذل الآن محاولات يائسة لإنقاذ هذا الاتفاق المعيب للإبقاء على تعاونها الاقتصادي مع إيران وإنقاذ استثمارات شركاتها هناك.
وإذا استبعدنا خيار المواجهة العسكرية الشاملة مع إيران يبقى السؤال.. ما هي الخيارات البديلة المتاحة أمام واشنطن لتنفيذ استراتيجيتها الجديدة حيال طهران؟
في تقديري الشخصي أن واشنطن ستعتمد في تنفيذ هذه الاستراتيجية على مزيج من خيارين يمتدان ما بين داخل إيران وخارجها، الخيار الأول قصير الأمد وينطلق من خارج إيران ويتعلق بتكثيف الضغوط الدولية عليها لإرغامها على إعادة التفاوض وصولاً إلى اتفاق جديد يعالج مجمل التهديدات الإيرانية وليس فقط ملفها النووي ويجبرها على تغيير سلوك نظامها، فيما الخيار الثاني طويل الأمد ويبدأ من داخل إيران ويعتمد بالأساس على تخليصها من نظام حكمها السلطوي الثيوقراطي عبر دعم الشعب الإيراني في تطلعاته الديمقراطية وفي احتجاجاته على تردي أوضاعه الاقتصادية، خاصة بعد أن كشفت مظاهرات ديسمبر الماضي عن مدى هشاشة النظام الإيراني وعدم استعصائه على التغيير كما كشفت عن مدى وعي الشعب الإيراني الذي وضع خامنئي وروحاني في سلة واحدة وحمّلهما معاً مسؤولية ما يعانيه من افتئات على حقوقه الاقتصادية والسياسية.
"خيار الخارج" كان أسبق في الظهور، واستغرق عاماً ومر بأكثر من محطة حتى تتبلور ملامحه، أولى هذه المحطات وأهمها كانت القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض في مايو 2017، ففي كلمته في تلك القمة وأمام قادة وممثلين 55 دولة، دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العمل بشكل مشترك على عزل إيران، وحمّل السلطات الإيرانية المسؤولية عن عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها، واعتبر أن النظام الإيراني هو الممول الأساسي للإرهاب الدولي، وشدد على أن "جميع الدول والشعوب يجب عليها أن تبذل جهوداً مشتركة من أجل عزل إيران حتى يعرب نظامها عن عزمه ليصبح شريكاً في إحلال السلام"، وبعد عام بالتمام والكمال من هذا الخطاب، وفي مايو 2018 اتخذت واشنطن خطوات إضافية وأكثر عملية لبلورة هذا الخيار، بدأت بإعلان ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران، تلاه إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عبر المتحدثة باسمها أن بلادها بصدد تشكيل تحالف دولي ضد إيران بهدف "مراقبة النظام الإيراني من خلال منظور أكثر واقعية، ليس من خلال منظور الاتفاق النووي فقط، بل من خلال كل أنشطته المزعزعة للاستقرار التي لا تشكل تهديداً للمنطقة فحسب بل للعالم أجمع"، وأخيراً جاءت الشروط الاثنا عشر التي أعلنها وزير الخارجية الأمريكي في خطابه أمام مؤسسة التراث وجعل تنفيذها من قبل إيران شرطاً لتطبيع العلاقات معها، في هذا الخطاب لم يشأ بومبيو أن يغلق الباب أم إيران بالمطلق، وأبدى انفتاحاً مشروطاً إزاء النظام الإيراني، قائلاً إنه مستعد للتفاوض معه على "اتفاق جديد" أوسع بكثير من اتفاق 2015 ولكن أكثر صرامة بهدف تغيير سلوك النظام، قائلاً إنه في مقابل القيام بتغييرات كبيرة في إيران فإن الولايات المتحدة مستعدة لرفع العقوبات في نهاية المطاف وإعادة جميع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إيران.
وهنا يبقى السؤال، هل سيكون مصير هذا "الاتفاق الجديد" الذي تسعى واشنطن إليه أفضل من مصير سابقه الذي انسحبت منه؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بسؤال آخر أكثر أهمية وهو: "من سيشارك واشنطن في عملية "التفاوض الجديدة" مع إيران حول هذا "الاتفاق الجديد"؟ مرد هذين السؤالين في رأي أن ما أفشل اتفاق 2015 وأوصله إلى هذا المصير الذي انتهى إليه هو أن من تفاوض حوله كانت الأطراف المستفيدة منه وليست الأطراف المتضررة.
دول أوروبا الرئيسية التي شاركت في عملية التفاوض نظرت إلى الاتفاق على أنه فرصة اقتصادية بالأساس، فإيران لم تشكل بالنسبة لها أي تهديد،لذلك تبذل الآن محاولات يائسة لإنقاذ هذا الاتفاق المعيب للإبقاء على تعاونها الاقتصادي مع إيران وإنقاذ استثمارات شركاتها هناك.
وفي واشنطن كانت لدى أوباما مقاربة مثالية ساذجة للتعامل مع الخطر الإيراني تعتمد بالأساس على "احتواء إيران" ومن ثم كان يرى أن توقيع اتفاق تاريخي معها يمكنها أن يجعلها أقل خطراً، وربما كان أوباما أيضاً يسعى إلى مجد شخصي، فقد أراد أن يثبت أنه يستحق جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها قبل أن يبدأ مهام عمله، لذا أحاط نفسه بمؤيدين لإيران ولتطبيع العلاقات معها، وعلى رأسهم روبرت مالي الذي عينه أوباما في مطلع ولايته الثانية مسؤولاً عن سوريا والعراق وإيران في مجلس الأمن القومي، وكان قبل توليه منصبه دائم الانتقاد لأوباما لأنه لم يأخذ بجدية "خيار الاحتواء" في التعامل مع إيران، وكان دائماً ما يشير إلى أن النقاش حول التعايش مع إيران نووية لم يأخذ مساره الكامل ولم ينل نقاشاً كافياً، تحت إدارة روبرت مالي كانت تعمل "سحر نورزادة" والتي كانت من ضمن فريق أوباما المسؤول عن مفاوضات التوصل إلى الاتفاق النووي، نورزادة أيضاً أثارت مثل رئيسها تساؤلات كثيرة قبل توليها منصبها عندما كشفت وسائل إعلام أمريكية أنها عملت مع "المجلس الوطني الأمريكي الإيراني"، الذي يعتبره الكثير من الأمريكيين قريباً من النظام الإيراني، وفوق هؤلاء كانت سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي، والتي لعبت دوراً كبيراً في صناعة القرار الأمريكي حيال إيران وقتها، وكانت من أكثر المدافعين عن الاتفاق النووي الذي اعتبرته "تاريخياً".
إذن.. كانت هناك أطراف مستفيدة من اتفاق 2015 سعت لتبريره وقتها وتسعى لإنقاذه الآن، لذا تفاوضت سريعاً لإنجازه للانتقال لحصد مكاسبه، ولعل هذا ما أدى في النهاية إلى "تمزيقه" دون أن تتحقق أي من الأهداف المبتغاة من إبرامه.
منطق الحوار والتفاوض على قاعدة براجماتية بحتة أساسها الاستفادة يجب أن يتغير في "الاتفاق الجديد" الذي تسعى الإدارة الأمريكية للتوصل إليه، فإذا كان هذا الاتفاق يسعى لمعالجة مجمل السلوك الإيراني المزعزع لأمن واستقرار المنطقة وليس فقط برنامجها النووي، فإن المنطق يقتضي أن تشارك في الحوار والمفاوضات حول هذا الاتفاق الدول المتضررة من هذا السلوك وهي كثيرة، فإيران لا تزال تحتل جزراً عربية، ولا تزال صواريخها الباليستية تصل إلى عاصمة الحكم في واحد من أهم البلدان العربية، ومحاولتها العبث بأمن واستقرار البحرين لم ولن تتوقف، ناهيك عن تدخلها السافر في شؤون العراق واليمن وسوريا ولبنان،
وفي ظني أن هذه الصيغة التفاوضية التي تصبح فيها الأطراف المتضررة جزءاً رئيساً من المعادلة هي وحدها الكفيلة بالوصول إلى اتفاق عادل يراعي مخاوف جميع الأطراف وليس فقط مصالح طرف واحد، وهذا بدوره قد يكون كفيلاً بعدم جر المنطقة إلى أتون حرب قد لا تتحملها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة