أريد في هذا المقال أن أتوقف أمام أحد الجوانب المتعلقة بفكرة إقامة الجدار أو الحائط.
منذ ثلاثين عاما، اندفعت الجموع في مدينة برلين التي كانت مقسمة وقتذاك بين ألمانيا الشرقية التي دارت في فلك الاتحاد السوفيتي وألمانيا الغربية التي ارتبطت بالعالم الغربي، لتتسلق الجدار الأسمنتي الذي فصل بين شقي المدينة من عام 1961، وتنهال بمعاولها لتحطيم أحجاره.
وبهذه المناسبة نظم الكثير من الجامعات ومراكز البحوث محاضرات ومؤتمرات لبحث دلالة هذا الحدث، ودارت مناقشات مثيرة على المواقع الإلكترونية حول تداعيات هذا الحدث بالنسبة لتاريخ أوروبا والعالم.
بغض النظر عن تفاصيل هذه الجدران أو الحوائط أو الأسوار من حيث طولها أو ارتفاعها، فإنها تعبر عن منظومة فكرية قوامها الفصل والعزل والتمييز بين البشر، وأحيانا الريبة والشك والخوف من الآخر
وأريد في هذا المقال أن أتوقف أمام أحد الجوانب المتعلقة بفكرة إقامة الجدار أو الحائط. فلم تكن سلطات ألمانيا الشرقية التي أصدرت أمرا ببناء هذا الجدار والذي عُرف بحائط برلين Wall The Berlin منفردة في هذا الفعل. ففي يونيو عام 2002، بدأت إسرائيل في إقامة جدار مماثل ليفصلها عن الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وفي عام 2017 اقترح الرئيس ترامب بناء سور على الحدود بين أمريكا والمكسيك، وأقامت بعض دول شرق أوروبا –كالمجر- أسوارًا من الأسلاك الشائكة على طول حدودها لمنع دخول المهاجرين الوافدين على أقدامهم من دخول أراضيها، وهدد قادتها بإطلاق الرصاص على من يحاول تجاوز هذه الأسوار. وقبل ذلك كله، كان هناك نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) في جنوب أفريقيا، والذي وفقًا له تم عزل الأقلية البيضاء عن الأغلبية السوداء في أماكن الإقامة والحدائق والعمل والمطاعم إلا في أقل القليل الذي تتطلبه مصلحة الأقلية.
كانت إقامة سور برلين لوقف عمليات هروب الألمان من الشرق إلى الغرب، الذين بلغ عددهم في الفترة 1949-1961 قرابة 2,5 مليون شخص، وبلغ طول السور 155 كيلومترا، وأقيمت عليه استحكامات عسكرية وأنوار كاشفة وأسلاك مكهربة، ونجح الجدار في منع الهروب، ولقي كل من حاول ذلك حتفه.
وأتى الجدار الإسرائيلي في أعقاب انتفاضة الأقصى في عهد حكومة شارون؛ لمنع انتقال الفلسطينيين من أراضي الضفة الغربية التي تديرها السلطة الفلسطينية إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل، مدعية أنه إجراء أمنى مؤقت. والسور هو جدار أسمنتي يتراوح ارتفاعه من 3 إلى 5 أمتار، يحيطه على الجانبين أسوار شائكة وخنادق يتم مراقبتها إلكترونيا، وطرق لمرور الدوريات العسكرية الإسرائيلية، وكل هذا بعمق بلغ متوسطة 100 متر.
وفي عام 2019 بلغ طول الجدار الذي تمت إقامته 402 كيلومتر، ووفقًا لخطة بناء الجدار فإنه من المتوقع أن يصل إلى 770 كيلومترا إذا ما استمرت إسرائيل في تنفيذ هذا المخطط.
أقامت إسرائيل عددًا من البوابات لانتقال الفلسطينيين الذين يحملون تصاريح بذلك. وفي بعض الحالات أحاط الجدار بالبلدات الفلسطينية من كل جانب، بحيث تحولت إلى "معازل" أو مناطق محاصرة تمامًا. وكان من شأن إقامة هذا الجدار الاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية وفرض قيود إضافية على تنقل الفلسطينيين. بل بلغ الأمر في بعض الحالات أن الجدار فصل ما بين المنزل الذي تعيش فيه أسرة فلسطينية والأراضي الزراعية التي تملكها وتعمل فيها.
يمثل إقامة هذا الجدار بندًا جديدًا إلى انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، وهو ما سجله الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في يوليو 2004 والذي ورد فيه: "إن الجدار الفاصل يمس مختلف الحقوق المقننة في الاتفاقيات والمواثيق التي وقّعت إسرائيل عليها، وهي: الحق في حرية الحركة، الحق في عدم التدخل في خصوصية البيت والعائلة"، وكذلك حقوق العمل، والحق في مستوى حياة لائق، والحق في الصحة والتعليم.
أما الجدار الفاصل على الحدود الجنوبية بين أمريكا والمكسيك، فقد بدأ كوعد قطعه ترامب على نفسه في حملته الانتخابية لمنع الهجرة غير الشرعية من المكسيك ودول أمريكا الجنوبية، ووعد بإقامته رغم الانتقادات الشديدة للفكرة من دوائر واسعة من الرأي العام الأمريكي. ومع أن الكونجرس في عام 2018 رفض الموافقة على بند الموازنة الذي قضي بتخصيص 5 مليارات دولار لبناء الجدار، فإن ذلك لم يغير من وجهة نظر الرئيس. وبلغ من تمسكه برأيه أنه أصدر في فبراير 2019 قانونًا بإعلان حالة الطوارئ بشأن الحدود مع المكسيك والذي وفقًا له أصبح بمقدوره تجاوز الاختصاص التشريعي للكونجرس بشأن تمويل بناء الجدار. وفي مايو 2019، استخدم الرئيس جزءًا من الأموال المخصصة بالفعل لوزارة الدفاع للبدء في البناء، ودعمه حكم المحكمة الاتحادية العليا التي ينتمي أغلب قُضاتها إلى الفكر المحافظ الذي قضى بأنه من حق الرئيس إقامة مثل هذا الحائط لاعتبارات سلامة المواطنين والأمن القومي الأمريكي.
وبغض النظر عن تفاصيل هذه الجدران أو الحوائط أو الأسوار من حيث طولها أو ارتفاعها، فإنها تعبر عن منظومة فكرية قوامها الفصل والعزل والتمييز بين البشر، وأحيانًا الريبة والشك والخوف من الآخر. كان مفهوم إقامة الحواجز المادية من الموضوعات التي تناولها الفلاسفة مثل الفيلسوف الأمريكي -من أصل ألماني- ليو شتراوس الذي يعتبر الأب الروحي لأفكار المحافظين الجدد في أمريكا، وأساتذة علم الاجتماع ومن أبرزهم الفرنسي إيميل دوركهايم أحد مؤسسي هذا العلم.
من الناحية الفلسفية، فإن الجدار هو حاجز مادي وفاصل بصري يحول دون الاتصال أو الاحتكاك المباشر بين الأشخاص الذين يعيشون على جانبيه. وعادة ما يجادل أنصار بناة هذه الجدران بأنها إجراء مؤقت لدواعي الضرورة، وأن إقامتها لمواجهة أخطار عاجلة تهدد الأمن والسلامة الاجتماعية. وقد يكون بعض هذه التبريرات له أساس من الصحة -من وجهة نظر أصحابها- ولكن يظل المعنى الدلالي والفلسفي لمفهوم الجدار باقيا، فالجدار هو إنكار لوجود الآخر، ورفض للتعامل أو التفاعل معه.
وإلى جانب العزل أو الفصل المادي الذي يحدثه الجدار، فإن له تأثيرات اجتماعية ونفسية على البشر الذين يعيشون في ظلاله. وعلى سبيل المثال، فقد عاشت برلين الغربية خلال الفترة 1961-1989 "تحت الحصار"، وكانت محاطة بالجدار من كل جوانبها، ولم يكن هناك سوى طريق يمر في أراضي ألمانيا الشرقية يربطها بالدولة التي تتبعها وهي ألمانيا الغريبة، وكان هناك قيود على الحركة في هذا الطريق. وفرض الجدار الإسرائيلي تغيرات سلبية على حياة الفلسطينيين الذين يعيشون بالقرب منه في كل مناحي حياتهم كالذهاب إلى المدارس والجامعات، والانتقال إلى المستشفيات في حالة المرض، وتسويق الحاصلات الزراعية، وغيرها من أمور الحياة اليومية.
والناس الذين يعيشون في مثل هذه الظروف يصبح لديهم نظرة مختلفة للحياة وللمجتمع من حولهم، وتنمو لديهم "عقلية الحصار" و"نفسية الحصار"، فيشعرون بالعزلة المكانية والزمانية، وباضطهاد الآخر -وربما العالم كله- لهم والتمييز ضدهم.
ومع كل السلبيات التي تحملها إقامة الجدران، فإنها لها وجود مادي منظور، وعادة ما تظهر دعوات منظمات حقوق الإنسان لإسقاطها والتخلص منها. ولكن هناك ما يماثل ذلك أهمية ويتعلق بأوضاع العالم الراهنة، مثل الجدار بين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء، وبين من يعلمون ومن لا يعلمون. وهناك جدران غير منظورة، وأقصد الجدران والحوائط النفسية التي تكمن في العقول والنفوس.. جدران وحوائط تفرق بين الناس، ويحدث هذا عندما يعتقد بعض البشر أنهم أفضل من الآخرين؛ بسبب اللون أو العرق أو الدين أو أي اعتبار آخر، فيتبنون ممارسات استعلائية عليهم، ويزعمون امتلاكهم للحقيقة، وينكرون على الآخرين حق أن تكون لهم آراؤهم واجتهاداتهم. وهذا هو الأساس الفكري للتطرف والإرهاب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة