عندما حلّ جو بايدن رئيسا لأمريكا كان الهدف من دوائر النفوذ والتأثير التابعة للحزب الديمقراطي أن تعيد هيبة الولايات المتحدة عالميا.
وكان الهدف أيضا أن يمضي نموذج الرئيس السابق، دونالد ترامب، بكل ما حمله من شعارات شعبوية، لهذا تم الدفع بالرئيس جو بايدن كوجه معروف للرأي العام الأمريكي، وبكل ما حمله من تاريخ سياسي كبير في مواقع متعددة، وباعتباره رجل دولة.. لذا جاء "بايدن" رئيسا وسط ظروف خاصة ومهمة لمسار الحركة الأمريكية في العالم.
هذا مدخل لما هو آت، حيث بات أداء الرئيس الأمريكي جو بايدن مخيبا لآمال الشعب الأمريكي بالفعل، فمع أول اختبار في إدارة ملف أفغانستان فشلت إدارة بايدن سريعا برغم أن قرار الانسحاب تم في فترة "ترامب"، ولكن إدارة الأزمة بين الرئيس بايدن ووزارة الدفاع والاستخبارات المركزية شابها أخطاء فادحة كلفت الولايات المتحدة الكثير، وستكلفها الكثير من التبعات الأمنية والاستراتيجية أيضا لإعادة فرض الهيبة الأمريكية، حيث انشغلت الإدارة الأمريكية بمواجهة الصين وروسيا، وبمنطقة جنوب شرق آسيا، وهو أمر طبيعي نظرا لسعي "بايدن" للالتزام ببرنامجه الانتخابي، إلا أن هذا التوجه عرقل التحرك الأمريكي للعمل في مناطق أخرى من العالم، بما فيها الشرق الأوسط ومناطق الجنوب، إضافة إلى الأزمات المندلعة في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وأعاد ذلك تذكير العالم بأزمة تايوان، باعتبارها ملفا مهما للسياسة الأمريكية في إطار مناكفة السياسة الصينية، كما دخلت إدارة بايدن في صراع مع روسيا، متبعة سياسة "حافة الهاوية"، وتكثيف سياسة العقوبات، التي اعتُبرت حلا في منظور الإدارة الأمريكية، عوضا عن اتباع سياسة رشيدة ومنطقية تقوم على طرح الأولويات والمهام الكبرى.
من ناحية أخرى، استمرت الإدارة الأمريكية تستجدي خطوة استئناف التفاوض مع إيران، في إطار مقاربة متكررة منذ إدارة "ترامب"، رغم أن الوقت يمر بالفعل وهناك مخاوف من أن تصل إيران إلى مرحلة العتبة النووية، فوقتها ستتغير كثير من الضوابط والمعايير الراهنة.
واكتفت الإدارة الأمريكية بالعمل وفق سياسة رد الفعل، كما جرى في ملف المواجهات الأخيرة بين "حماس" وإسرائيل، وكذلك في أزمة السودان الراهنة، ومضت الإدارة الأمريكية في طريقها لتكرار مفاهيم الدبلوماسية مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا كما جرى في ثمانينيات القرن الماضي، بل وعزفت الإدارة الأمريكية عن تعيين مسؤولين وسفراء في مواقع كبيرة ومهمة، وكأن الحزب الديمقراطي ليس لديه كوادر في هذه المناصب.
من ثمّ فإن الإدارة ستواجه أزمات بنيوية أخرى في الفترة المقبلة، وقبل الذهاب إلى انتخابات التجديد النصفي في 2022.
ومع تقدم السنّ بالرئيس بايدن والمخاوف من عدم قدرته على الاستمرار في منصبه، ستكون هناك إشكاليات حقيقية تتعلق بكثير من السياسات الجوهرية، فعلى سبيل المثال، فإن التقرير الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية في 3 نوفمبر الجاري ألقى الضوء على الاستراتيجيات، التي تتبنّى الصين العمل بها لتحدي السياسة الأمريكية وتعزيز مكانتها الدولية وتطوير قدراتها النووية والاستراتيجية والدعوة للشروع في إقامة حوار استراتيجي حقيقي مع الصين حول تطوير إمكانياتها العسكرية، ومحاولة التوصل معها إلى ترتيبات للتحكم في التسلح، وهذا نموذج مما يجري أمريكيا في العمل من أعلى مع تكرار نفس السياسات السابقة.
ولعل الهزيمة الانتخابية في فيرجينيا، والنتيجة في نيوجيرسي، هي أجراس إنذار للرئيس بايدن وللحزب الديمقراطي، في ظل ارتفاع أسعار الطاقة، وتزايد معدلات التضخم، وأزمة المهاجرين على الحدود الجنوبية، إضافة إلى الانقسامات التي يعانيها الحزب.
هذا جزء من كل العوامل المباشرة للتراجع المطرد في معدلات التأييد للرئيس "بايدن" من 53% إلى 42% حاليا، ما يعني أعلى معدل للتراجع في شعبية الرئيس بايدن خلال 9 أشهر من الحكم.
وما لم يعالج الرئيس والحزب حالة الخلل الكبير في نظام الحكم، وأداء الإدارة بأكملها، فإن الحزب الديمقراطي سيكون على موعد مع خسارة كبيرة في انتخابات التجديد النصفي، فنتيجة الانتخابات في فيرجينيا ونيوجرسي تشير بالفعل إلى افتقاد الثقة في القيادة، وفي التوجهات والمواقف الراهنة، بل وبات هناك تشكك حقيقي في أن يستكمل "بايدن" مدة الولاية الراهنة أصلا، من ثم فإن الإدارة الأمريكية مطالبة في تقدير مراكز البحوث أن تعيد هيكلة أوضاعها وسياستها بصورة كبيرة، كما أن عليها مراجعة تقييماتها السياسية والاستراتيجية بصورة جديدة، خاصة أن أداء مراكز صنع القرار الأمريكي تبقى في دائرتها السياسية والاستراتيجية المتعارف عليها دون أن تتدخل بالصورة، التي يتوقعها البعض، خاصة أن لجان الكونجرس المتابعة تعمل في إطار بيروقراطي متعلق بنمط السياسات دون أن تنخرط في التوجيه، كما تكتفي تقارير الخارجية والاستخبارات المركزية بالعمل وفق نمط محدد وعبر سلسلة من الآليات المحددة، التي قد لا تختلف كثيرا، سواء كانت الإدارة جمهورية أو ديمقراطية، لهذا شاع مؤخرا في الولايات المتحدة تيار يدعو لتجديد وتحديث بعض الوزارات المهمة، التي تتعامل مع أنماط السياسات الأمريكية، ومنها وزارة الخارجية على سبيل المثال، الأمر الذي يشير إلى وجود أزمة حقيقية يدركها الجميع في ظل تخبط بعض السياسات، وهو ما جرى مع "طالبان"، كما امتد للتعامل مع الصين، وكذلك مع حلف الناتو، خاصة أن هناك تصورا داخل بعض مراكز صنع القرار أن الرئيس الأمريكي، أيا كان أسلوبه، ينبغي عليه العمل وفق الضوابط الراسخة للضوابط الأمريكية في الداخل والخارج، وأن عليه الالتزام بروحها.
هذا الأمر الذي يتطلب بالفعل إقرارا بما هو قائم مع عدم الخروج عنه، وهو ما يضع الرئيس -أي رئيس- في دائرة محددة لا فكاك منها، مع تأكيد أن المستجدات التي تفرض نفسها على ما يجري داخل الولايات المتحدة أو خارجها قد تؤدي إلى مزيد من المواقف والاتجاهات المهمة التي ينبغي العمل وفقها، والواقع الراهن في مجمله يشير إلى أن الإدارة الأمريكية الراهنة تواجه اختبارات عسيرة، واستحقاقات مهمة قد تكون نتائجها خطيرة ومكلفة، في ظل واقع متغير، ورأي عام متابع، ومؤسسات عتيقة من الصعب تطويع توجهاتها.
تبقى -في كل الأحوال- مواجهة ما يجري على الجانب الآخر من الحزب الجمهوري، وتحركاته واستعداده للنزال في انتخابات التجديد للكونجرس، مقدمة لما سيجري بالفعل للإدارة الأمريكية، وذلك بصرف النظر عن إقرار مجلس الشيوخ خطة بايدن لتحفيز الاقتصاد المتضرر من جرّاء كوفيد-19 والبالغة قيمتها 1.9 تريليون دولار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة