يحل الرئيس جو بايدن ضيفًا على المنطقة لأيام في ظل مرحلة حرجة تمر بها إدارته داخليا وخارجيا.
فاستطلاعات الرأي الأمريكية تشير إلى تراجع شديد في شعبيته، ورفض غالبية واضحة في حزبه –الديمقراطي- لترشحه إلى ولاية رئاسية ثانية.
أما دوليا فتكافح الولايات المتحدة لاستعادة قطبيتها الوحيدة في العالم، واسترداد نفوذها في مناطق عدة بات كل من الروس والصينيون ينافسونها فيها.
الشرق الأوسط إحدى المناطق، التي تتطلع واشنطن إلى صفحة جديدة معها، كما يقول بايدن.
ولكن ما ملامح المرحلة المقبلة التي تتطلع إليها أمريكا؟ وهل تختلف عن سابقتها في تفضيل مصلحة الولايات المتحدة على مصالح الجميع، دولا وشعوبا؟ وما دوافع واشنطن في هذه "الصحوة" لأهمية المنطقة بعد خطط التخلّي والانسحاب منها بحجة إتمام المهام، وانتفاء الحاجة إلى قوات أمريكية فيها؟
في الزيارة يبحث "بايدن" عن إنجازات تُسجَّل له.. يريد حلولا لأزمات الاقتصاد والطاقة في بلاده والعالم.. يسعى لإقناع قادة الشرق الأوسط باتفاق نووي إيراني قد لا يضمن استقرار المنطقة على المديين المتوسط والطويل.. وفي الوقت ذاته يريد بلورة "ناتو شرق أوسطي"، إضافة إلى دفع الدول العربية نحو إدارة ظهرها لروسيا من أجل عيون "البيت الأبيض"!
كل هذه الأهداف تندرج تحت عنوان واحد فحواه هو الحرص على بقاء النفوذ الأمريكي في المنطقة دون منافس.. وبتعبير آخر، قطع الطريق على أي دولة، مثل الصين وروسيا، تحاول منافسة الولايات المتحدة في هذا النفوذ.. ولكن كيف يمكن ضمان ذلك إنْ سحبت واشنطن قواتها من الشرق الأوسط؟ وهل الاستمرار في تجاهل مصالح دول المنطقة يحقق لأمريكا الحفاظ على تفوقها وقوة نفوذها؟
إنْ أخفقت أهداف الزيارة، سيتمسك "بايدن" ببدائل تُوحي بأن كل شيء على ما يُرام في علاقة أمريكا مع دول المنطقة.
ربما لن تكفي هذه البدائل لفتح صفحة جديدة بين الطرفين، ولكنها على الأقل تسمح باستمرار الوضع على حاله.. أو قد تضع أرضية لاتفاقيات لا بد من البناء عليها لأشهر أو سنوات مقبلة.. شرط أن لا يُستبدلَ بساكن "البيت الأبيض" آخر يمتلك رؤية مختلفة عن جو بايدن وفريقه الديمقراطي.
أبرز البدائل هو "إعلان القدس"، الذي وقعته واشنطن وتل أبيب. هو بمثابة تعهد أمريكي بالعمل نحو مستقبل أفضل في العلاقة بين البلدين، وضمان تفوق إسرائيل عسكريا وأمنيا وتكنولوجيا في الشرق الأوسط.. كما يتضمن منع إيران من امتلاك السلاح النووي، ومنعها من تهديد الأمن القومي الإسرائيلي.
الإعلان بشكل أو بآخر يمثل بديلا عن "ناتو الشرق الأوسط"، الذي كانت تريده أمريكا ولم تؤيده دول عدة في المنطقة، لأسباب، منها أن هذا التحالف ليس واضحًا في تركيبته وأهدافه.
محاولة دعم الفلسطينيين اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا هو بديل جو بايدن لإطلاق مفاوضات بينهم وبين الإسرائيليين على أساس حل الدولتين.. فرئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، يائير لابيد، لا يريد من أمريكا أي خطوة في هذا الملف يمكن أن تضر بفرص فوزه وحزبه في انتخابات الكنيست المقبلة.. خاصة أن استطلاعات الرأي ترجح فشل أي حزب في الفوز بغالبية كافية لتشكيل حكومة إسرائيلية قوية، وبالتالي قد يكون "يائير" مضطرًّا إلى التحالف مع اليمين الرافض لأي اتفاق سلام مع الفلسطينيين.
بشكل عام، تنطوي بدائل "بايدن" على منافع للمنطقة كما الحال للولايات المتحدة.. فالشرق الأوسط لا يبحث عن خصومة مع الولايات المتحدة، ودوله لا تريد للرئيس "بايدن" أن يعود خالي الوفاض.. ثمة قضايا كثيرة يمكن إبرام التفاهمات حولها مع واشنطن.. وهذه التفاهمات تعود بالمنفعة على كل الأطراف.
إنهاء حرب اليمن الممتدة منذ 2015 مثال جيد على الملفات، التي تهتم المنطقة العربية بها، ولأمريكا ودول العالم مصلحة في إنهائها.. فهذه الحرب تهدد الملاحة الدولية في مياه الخليج العربي والبحر الأحمر.. كما أنها تضع عبئا كبيرًا على كاهل المجتمع الدولي بسبب الأزمة الإنسانية التي يعيشها اليمنيون.
ثمة حاجة ملحة أيضًا لموقف أمريكي إيجابي إزاء التعاون العربي بمواجهة بعض التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية تحيط بدول المنطقة.. وضع العصي بالدواليب كما يقال، لا يبدو مبررًا من الولايات المتحدة.. وفي بعض الأحيان يظهر كأنه محاولة لفرض وصاية على العلاقات البينية العربية.
المرونة الأمريكية تغيب أيضًا عن قراءة العلاقات العربية الخارجية.. والحرب الأوكرانية قدمت نموذجًا لصعوبة تفهم الولايات المتحدة لمصالح دول المنطقة مع أقطاب مثل روسيا والصين.. أو على الأقل، تفهم حاجة هذه الدول إلى الوقوف على الحياد إزاء حرب انعكست تداعياتها الاقتصادية والإنسانية على جميع أنحاء العالم، بما في ذلك خصوم موسكو، الذين يزوّدون كييف بالسلاح والمال.
يمكن أن تستبدل واشنطن بسياساتها "التعسفية" في المنطقة ما يشبه الطريقة التي تحتوي فيها المواقف التركية إزاء الأزمة الأوكرانية... خاصة عندما تجمعها شراكات استراتيجية متينة تمتد لثمانية عقود مع دول بالمنطقة، مثل السعودية.
صَدَق "بايدن" عندما قال إن بلاده تحتاج إلى إعادة توجيه علاقاتها مع الرياض، ولكن الحقيقة أن أمريكا تحتاج إلى تصويب علاقاتها مع كل دول المنطقة، وإعادة التوجيه المرتقبة يجب أن تكون على أساس تبادل المصالح، وليس التبعية أو التماهي مع الحليف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة