منذ مباشرته عهده في البيت الأبيض، بدا الرئيس جو بايدن .
كمن يسعى إلى بلورة فلسفة حكم تطبع ولايته بشخصه ضمن أطر السياسة العامة للولايات المتحدة الأمريكية. لا يستوي الجزم بأنه في مسعاه إنما يريد طي صفحة سلفه الجمهوري دونالد ترامب فقط بما لها وعليها ضمن حسابات مغزاها حزبي، حيث إن لكل فريق حزبي نهجه وأسلوبه في الحكم وفي إدارة السياسة الخارجية ولديه مقاربات مختلفة في كثير منها حيال الشؤون الداخلية، ودوافعها نابعة من الرؤية الشخصية لموقع بلاده ومصالحها على المستويين الخارجي والداخلي، وليس من الإنصاف تفسير رسائله في اتجاهات كثيرة، باعتباره امتداداً لسلفه الديمقراطي باراك أوباما في النهج والمقاربات المتعلقة بمصالح واشنطن الحيوية على امتداد العالم وحسب.
التصورات النظرية الأولية للسياسة الأمريكية التي يطرحها بايدن وفريق حكمه لا تفترق كثيراً حتى الآن عن الخطوط العريضة التي انتهجتها إدارة أوباما، قد يكون ذلك جزءاً من القيد النفسي للرئيس الأمريكي الساعي إلى إحداث قطيعة مع ذلك الإرث بطريقة أو بأخرى. الملفات هي ذاتها على طاولة عمل العهد الديمقراطي في البيت الأبيض، فلا مجال لتغييرات وانعطافات سياسية حادة في أي منها، بدءاً من الصين ومحيطها القاري، روسيا كعدو تاريخي، إيران وملفها الشائك، الشرق الأوسط وقضايا الصراع والتوترات والتناقضات التي تحكمه وتتحكم به، علاوة على الحلفاء في أوروبا وفي المنطقة العربية. من الطبيعي أن يسعى سيد البيت الأبيض إلى وضع بصمته على فترة زعامته لدولة تتربع على عرش العالم وتدير أزماته وتناقضاته وصراعاته.
السؤال الملح يتمحور حول إمكانية بايدن وفريق حكمه في طرح مقاربات وتصورات جديدة، جذرية أو جزئية، لمعالجة بعض الملفات الكبرى كالعلاقة مع الصين مثلا، أيُّ نهج يمكن أن يكون أجدر بالتبني، تصادمي أم تصالحي؟ كيف سيتم بناء قاعدة للعلاقات الثنائية بينهما تقوم على الاحترام المتبادل لمصالح بعضهما؟ وماذا بشأن حلفاء كل طرف على المسرح الدولي، حيث تتناقض الرؤى وتتعارض المصالح وتتعدد نماذج السلطات وحكامها؟ أسئلة لا تقتصر على المنافس الصيني فحسب، بل تنسحب على مجمل القضايا الدولية المتشابكة.
لا يبدو أن الرئيس الأمريكي في وارد الإفصاح عن محددات سياسته الخارجية حتى الآن، بحيث يتسنى رسم ملامح وآفاق العلاقات الدولية في ضوئها، وهو في كل ما طرحه وما أصدرته مؤسسات إدارته لا تعدو عن كونها عناوين عريضة، وربما أكثر ما تشي به أن بايدن يعيد ترتيب أولوياته كافة، ويحاول بلورة نظرية خاصة به وبأسلوب حكمه قائمة على "لعبة توازن القوى" في العالم وتوظيفها لخدمة أهداف ومصالح واشنطن التكتيكية والاستراتيجية.
لعبة توازن القوى، هل هي إعادة تنظيم "للبصمة" الأمريكية على المسرح الدولي؟ أم أنها خطوة للتنصل من بعض الأولويات الاستراتيجية المعهودة للولايات المتحدة في بعض المناطق لمصلحة أولويات أخرى؟ في جميع الأحوال: ماذا يمكن أن يترتب على ذلك من تبعات؟
التقارب الروسي الصيني يشكل تحدياً استراتيجياً كبيراً للولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً، وهما قطبان تجمعهما قواسم مشتركة عديدة أبرزها خصومة الولايات المتحدة والغرب بلبوسه الأطلسي. بكين بتقاربها مع طهران لم تمنح الجانب الإيراني فرصة للإمعان في تعنتها ضد واشنطن، بل أضافت إلى خيارات المارد الصيني ميزة لدعم توجهه المناكف للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك مرتبط بشكل وثيق بمسعاها لتعزيز حضورها وانفتاحها السياسي المتأني والمدروس على المنطقة، والانتقال من الحامل الاقتصادي لعلاقاتها مع العالم الخارجي إلى حيز الأطر السياسية على قاعدة الشراكة الاقتصادية.
التحديات التي تواجه نزعة بايدن تتساوى من حيث جوهرها مع العقبات الماثلة في طريقه على الصعيدين الداخلي والخارجي، ذلك أن مقتضيات واحتياجات بناء أسس جديدة لعلاقات بلاده مع الخارج على قاعدة توازن القوى تتطلب شطب تحالفات هنا، وتقليص حضور هناك، بالتوازي مع دعم مضاعف في بقعة ما، وتبني ملفات وقضايا كبرى في بعض المناطق تبعا لأهداف ومصالح واشنطن، ما قد يفضي إلى حدوث هزات متفاوتة الشدة وربما اضطرابات لا تصب في سياق الاستقرار الإقليمي والدولي، إضافة إلى أن تطبيق هذه النظرية قد يستغرق سنوات مديدة وبنية لوجستية تتغذى من جميع مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية الأمريكية، وسيؤدي ذلك لاستنزاف الجانب الأمريكي، فضلاً عن احتمال استغلال بعض القوى الإقليمية في أكثر من مكان للمناخ الجديد للتوسع والهيمنة.
الأمر الأكثر خطورة في مثل هكذا توجه يبدو في الاضطراب الذي قد يتفجر عند حدوث خلل في موازين القوى لدى هذا الجانب أو ذاك في حال قلصت واشنطن حضورها أو ضاعفته، لا فرق في مثل هذه الحالة.
أن يرمي الرئيس الأمريكي بثقله للعمل على مواجهة المارد الصيني، الأكثر تهديدا لمكانة بلاده مستقبلا على الإطلاق، فذلك أمرٌ محمود ضمن معادلة متوازنة تصون مصالح الطرفين، وشرط ألا تحدث خللاً في العلاقات الدولية، ولكن يبقى الشرق الأوسط بقضاياه وتناقضاته وتحدياته وأطماع بعض القوى ومشاريعها المتعارضة فيه على حساب دول أخرى ميزاناً لمدى صوابية سياسة بايدن وتماسكها وفاعليتها، بل يمكن القول إن النجاح الأمريكي في إدارة أزمات الشرق الأوسط جزئياً أو كلياً، وما أكثرها، سيشكل معياراً أساسياً لنجاحها في مواجهة تحديات بحجم الذي تفرضه الصين منفردة أو مجتمعة مع بعض القوى الدولية الحليفة لها.
ليس من السهل في ظل العلاقات الدولية غير المستقرة، بطبيعة الحال، أن يعبر بايدن نحو الضفة الأخرى المنشودة أو المأمولة دون منغصات له، ومتاعب لغيره، الأصعب أن تترك مثل هذه التوجهات أثراً سلبياً على مجمل المشهد الدولي. "نظرية توازن القوى" لعبة تصلح في نطاق محدد ومتقارب الشروط الجغرافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، لكنها تتحول إلى فتيل قابل للاشتعال ضمن سياقات جغرافية واقتصادية وعسكرية وسياسية متناقضة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة