يدشن الحوار الاستراتيجي بين العراق وأمريكا مرحلة جديدة في مسيرة العلاقة المضطربة بين البلدين لما شابها من جرائم واحتلال.
ولا ننسى أن لهذا الحوار عتبة من التمهيد باتفاقية استراتيجية عُقدت في عام 2008 حول انسحاب القوات الأمريكية من العراق ولم تُنفذ إلا في عام 2011 لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق. وانطلاقًا من هذه الاتفاقية بدأ البرلمان العراقي يطالب بالانسحاب الأمريكي النهائي.
وفي ظل هذه الظروف، تسعى أمريكا إلى إبعاد إيران عن الهيمنة على توجيه السياسة العراقية من خلال نبرة المحاصصة الطائفية من جهة والضغط من خلال مليشياتها من جهة أخرى. كما تسعى إلى إسكات الأصوات المطالبة بانسحابها مثل الحشد الشعبي وبعض الأحزاب الدينية المطالبة بإخراج القوات الأمريكية. لذلك تعبر الولايات المتحدة عن دعمها لحكومة الكاظمي المعتدلة في نظرها، لذلك ستكون الانتخابات المقبلة حاسمة في مستقبل السياسة الأمريكية.
في هذا الحوار الاستراتيجي بين العراق وأمريكا خفايا كثيرة هنا وهناك سواء في البنود أو الاقتراحات والطموحات. التطور الجديد في هذا الحوار، المجالات التي تتعدى قضايا الأمن والتدريب ومكافحة الإرهاب إلى الاقتصاد والطاقة والبيئة، والعلاقات الثقافية والشراكة الاقتصادية وغيرها. ويفرض هذا الحوار الاستراتيجي قواعده على العراق من حيث إجراء إصلاحات اقتصادية في مجال تحسين البنية التحتية والخدمات العامة وتطوير موارد الطاقة وغيرها من المشكلات التي ما زالت بعيدة عن التحقيق والإنجاز، خاصة ما يتعلق منها بمجال الكهرباء والغاز والطاقة النظيفة والموارد الطبيعية والمياه وميزانية كردستان.
هل الولايات المتحدة جادة في هذه الشراكة الاقتصادية؟ ولماذا لم تبدأ بها منذ دخولها إلى العراق في عام 2003؟
لا ننسى أن الولايات المتحدة دخلت إلى العراق كدولة محتلة، كما اعترفت هي بذلك. وهي المسؤولة عن المشكلات الخطيرة التي يعاني منها، وهي عاجزة عن دعم العراق في مسائل متعددة؛ منها قضية المتظاهرين السلميين، وتمويل الانتخابات، وإعادة النازحين إلى مدنهم، واستعادة الأصول المسروقة، ومكافحة الفساد وغيرها. هذه مشكلات أصبحت مشتركة بين البلدين شئنا أم أبينا، ويضاف إلى ذلك موضوع مكافحة الإرهاب الذي تنتشر بموجبه القوات الأمريكية في بعض مناطق العراق.
هل الولايات المتحدة قادرة على دعم قطاع التعليم والثقافة والجامعات؟ وإعادة الممتلكات الثقافية إلى العراق من ضمنها أرشيف حزب البعث؟ وإعادة 6.5 مليون وثيقة إلى بغداد؟ وإنقاذ الآثار كما جاء في الحوار الاستراتيجي؟.
هل هذا الحوار مُلزم للولايات المتحدة أم أنه مجرد حوار بروتوكولي ليس إلا؟ هذا تساؤل جوهري لا بد من طرحه. لماذا لم تستبدل كلمة الحوار الاستراتيجي بالمفاوضات؟
لا تزال الكثير من المشكلات عالقة، وهي بحاجة إلى مفاوضات حقيقية مثل موضوع النازحين، البالغ عددهم نحو 1.4 مليون نازح وفقا لأرقام منظمة الهجرة الدولية، والمختفين قسريا بالآلاف، وإعادة إعمار لم تتحقق، وفصائل الحشد الشعبي وضغوطاتهم، والاعتذار عن غزو عام 2003.
مما لا شك فيه أن إعادة تفعيل الحوار بين العراق وأمريكا شأن ضروري للغاية في الظروف الحالية من خلال مناقشة الملفات الشائكة بين البلدين بدلاً من تجنبها والتغطية عليها، فمن الضروري أن تخضع إلى معايير جديدة في ضوء المعطيات الدولية والإقليمية الجديدة وجائحة كورونا.
مما لا شك فيه أن هذا الحوار جاء نتيجة للضغط الشعبي، خاصة أن تظاهرات تشرين لم تنتهِ بعد، ولم تحقق الحكومة العراقية أياً من المطالب الشعبية، خاصة الكشف عن قتلة المتظاهرين السلميين. وعدم حل هذه المشكلة والتغطية عليها يزيد في احتقان العلاقة بين الحكومة والشعب.
هناك أسباب دفعت الولايات المتحدة إلى إجراء هذا الحوار الاستراتيجي بعد أن شعرت بأن مصالحها في العراق والمنطقة مهددة. إن هدف الحوار الاستراتيجي بين العراق وأمريكا هو مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي، والتصدي لتنظيم داعش الذي لا تزال فلوله تنتشر بين العراق وسوريا وغيرها.
هل العراق بحاجة إلى أمريكا في شأن الأمن وتدريب قواته؟
بعد مرور كل هذه السنوات، من المفترض أن يكون العراق قد اكتسب الخبرة الكافية ودرّب قواته الأمنية من أجل الحفاظ على الأمن الداخلي، حيث تتذرع أمريكا بوجود قواتها في العراق لهذا الغرض. ولعل الأخطر من كل ذلك أن تستخدم الولايات المتحدة العراق ساحة لتصفية حساباتها مع إيران. وهذا ما يشكل خطرا كبيرا على العراق الذي لا يزال يعاني من مشكلة طموحات البعض الانفصالية التي تهدد وحدة أراضيه.
تكرر الأوساط الشعبية المثل القائل: أمريكا خرجت من النافذة وتريد العودة من الباب. والسؤال المطروح: هل لا تزال أمريكا بحاجة إلى العراق بعد انحسار نفوذها في الشرق الأوسط؟
هناك مهمة تقع على عاتق الحكومة العراقية وهي توحيد المجتمع العراقي بكل أطيافه والابتعاد عن نظام المحاصصة الطائفية، وهو العلاج السحري لكل تطور، وكذلك الانفتاح على محيطه العربي وتعزيز علاقاته البينية. ولعل المبادرات الأخيرة لمد الجسور مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة علامة على هذا الطريق.
بدون إيجاد الحلول الناجعة لهذه المشكلات، يبقى أي حوار استراتيجي أم غير استراتيجي رهين هذه المعادلة. وأي حوار مع أمريكا لا يطالب فيه المحاور العراقي باعتذار وتعويضات عن غزو العراق ومآسيه، يظل بلا قيمة. كما أنه مع البقاء على مبدأ مكونات المجتمع الزائفة والمحاصصة الطائفية والإبقاء على المليشيات وعدم حل مشكلة النازحين ومكافحة الفساد وعدم الانفتاح على محيطه العربي، يبقى الحوار الاستراتيجي مع أمريكا حبرا على ورق ومجرد كلام تمحوه الرياح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة