هل جاء خطاب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، الذي ألقاه أمام نفر من مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين..
ليؤكد على أن المئة يوم الأولى في إدارته كانت ناجحة بصورة أو بأخرى، وأن حظوظ التقدم والقفز على الإشكاليات التي خلفها من ورائه سلفه دونالد ترامب كبيرة وحقيقية؟
أفضل معيار يمكن أن نقدم الجواب من خلاله هو استطلاعات الرأي، وأحد أهمها هو ذاك الذي قامت عليه مجلة "بوليتيكو"، بالشراكة مع مؤسسة "مورنينغ مونسلت"، وفيه حاز بايدن على رضا ما لا يقل عن 60% من الذين استطلعت آراؤهم، ما يعني أنه تجاوز النسبة التي حصل عليها ترامب في استطلاع مماثل. في نفس التوقيت، جرى في 2017 وحصل على 48%، بما يفيد بأن هناك 12 نقطة يتقدم بها بايدن.
يتساءل الأمريكيون ما الذي يجعل بايدن يتقدم على ترامب، على الرغم من انتشار جائحة كوفيد-19 على الأراضي الأمريكية من جهة، والخسائر الاقتصادية الهائلة التي تكبدتها الولايات المتحدة من جهة ثانية، ما جعل إجمالي الدين العام الأمريكي يقفز لحدود 37 تريليون دولار؟
أغلب الظن أن حالة الرضا عن بايدن تعود إلى محاولاته التي تبدو صادقة في رأب الصدع الداخلي الذي أصاب الأمريكيين خلال سنوات الرئيس السابق، والذي بدأ ولايته الأولى بقضايا خلافية، جعلت الكثيرين يؤمنون بأنه رجل صدامي على المستويين الداخلي والخارجي، الأمر الذي انعكس على النسيج المجتمعي الأمريكي.
والشاهد أن أفضل ميزة في فريق بايدن هو إدراك أن الشعوب تدار بالسوسيولوجيا، وليس بالأيديولوجيا، بمعنى أن المواقف الحدية وتعميق الشروخات في الجسد الأمريكي، سيرتدان سلبا على صورة أمريكا في أعين العالم الخارجي، الأمر الذي سيستفيد منه فقط أعداء أمريكا.
يمكن القطع بأن محللي "نيويورك تايمز" كانوا أفضل من قدم جوابا عن سبب النسبة المتقدمة التي حصل عليها بايدن في استطلاع الرأي المشار إليه؛ إذ اعتبروا أن سيد البيت الأبيض يقود خطة جريئة، لا لوضع الأموال في جيوب المواطنين الأمريكيين كما وعد بالفعل من خلال برامجه الاقتصادية الجريئة، ولكن من خلال جهود وخطط تبدو على الأفق دؤوبة لإعادة البناء على مستوى تشاركي جماهيري أعلى، وعلى حزبية أقل، ما يجعل من شعار أمريكا أولا حقيقة قائمة، ومن غير صخب أو ضجيج أيديولوجي كما فعل ترامب.
نجح فريق الرئيس بايدن خلال المئة يوم الأولى في تنبيه الأمريكيين إلى خطورة المشهد الانقسامي الحادث في الداخل، والقائم على مرتكز، أي البيض البروتستانت الأنجلو ساكسون فحسب، وبين الجاكسونيين الذين يرفضون فكرة بوتقة الانصهار التي تمثل رافعة لأمريكا الموحدة.
أظهرت جهود بايدن خلال الأيام المئة الأولى إدراكا واقعيا للعدو الحقيقي الذي تواجهه البلاد من وجهة نظر واشنطن، وفي المقدمة الصين وتاليا روسيا، ولهذا جاءت غالبية إن لم تكن كل كلماته وخطاباته منذرة ومحذرة من أن الاستقطاب الأمريكي العميق والهجوم على مبنى الكابيتول، ذلك المشهد المأساوي الذي حدث في السادس من يناير/ كانون الثاني المنصرم، سوف يؤثر على الولايات المتحدة خارجيا من خلال استغلال الدول المستبدة في تقدير أمريكا والتي تروج بأن "شمس الديمقراطية تغرب على الولايات المتحدة"، وهذا هو جوهر الحلم الأمريكي: الديمقراطية والحرية.
في حساب حصاد ونجاحات بايدن داخليا الكثير الذي يمكن رصده بوضوح، وفي المقدمة إيفاؤه بوعده الخاص بتوفير لقاحات ضد الفيروس الشائه الذي أرعب البلاد والعباد، ويبدو أنه كبدها خسائر في الأرواح أكثر مما خسرت في الحرب العالمية الثانية.
في اليوم الـ59 من ولايته الأولى، كان مئة مليون أمريكي قد حصلوا على اللقاح، كما وعد خلال حملته الانتخابية، وقبل الوصول إلى المئة يوم، كان نحو مئة مليون أمريكي آخرين قد حصلوا على اللقاح، ليرتفع عدد الحاصلين عليه إلى 200 مليون من أصل 350 مليون أمريكي، الأمر الذي خرج بالأمريكيين من دائرة الفوضى الخاصة بالجائحة خلال السنة الأخيرة لترامب.
ولأن الشعوب تمشي على بطونها وليس الجيوش فقط كما قال نابليون بونابرت ذات مرة، فقد رأينا بايدن يعمد إلى توفير خطة إنقاذ اقتصادي بقيمة 1.9 تريليون دولار، وهي بلا شك فاعلة ومؤثرة في إخراج الأمريكيين من حالة الركود، وتيسير الإنفاق، ما يعني دوران عجلة الاستهلاك، وإرسال شيكات تحفيز، وتمويل المدارس، وإعطاء قبلات الحياة للمشروعات الصغيرة.
طويلا تندر دونالد ترامب على المرشح بايدن، ووصفه بأنه "جو النعسان"، وفاته أن الرجل له خبرة أكثر من أربعة عقود في دهاليز السياسة الأمريكية، بما فيها ثماني سنوات كنائب لأوباما، وعليه فهو قادر على تحديد خطوط الطول والعرض للأمن القومي الأمريكي، لا سيما في أوقات الأزمات. ومن عينة ذلك لجوؤه إلى تفعيل سلطة الدولة الفيدرالية في الأماكن التي يطولها القانون لإجبار المواطنين الأمريكيين على ارتداء الأقنعة الواقية من الفيروس، الأمر الذي ساعد كثيرا على وقف انتشار الوباء.
أعطى بايدن الأمريكيين أملا في استنهاض قواهم الاقتصادية، وفي بلد براجماتي ذرائعي النزعة، يمكن أن يعلق المرء على مثل هذا الأمل أحلاما عريضات، ومن بين الآمال المثيرة خطته الضخمة للإنفاق، وقيمتها نحو 2.3 تريليون دولار لإصلاح البنية التحتية ولدعم التصنيع والابتكار والطاقة النظيفة والعمال الأمريكيين.
الخطة التي يطرحها الرئيس الأمريكي يمكنها أن توفر عدة آلاف من الوظائف، ما ينعكس إيجابا على الطبقة الأمريكية المتوسطة، ما يساعد على مداواة الجراحات التي خلفتها إدارة سابقة وفيروس لا يرحم.
على أنه، وفي المقابل تبقى هناك تساؤلات مفتوحة عن الملفات التي لم يختبر فيها بايدن بعد، لا سيما ملفات العلاقات الخارجية، وقد بدا مؤخرا أن صداما كاد يحدث مع الروس من جراء التحركات العسكرية الأمريكية في أوكرانيا، وهناك أحاديث عن لقاء في يونيو القادم مع القيصر بوتين.
السؤال المهم في هذا الإطار: هل سينجح بايدن في احتواء سيد الكرملين كي يتفرغ للمواجهة التي لا ينكرها أحد في الداخل الأمريكي مع التنين الصيني؟
في خطابه الأخير، شدد بايدن على عدم السعي لنزاع مع الصين، لكنه في الوقت عينه أشار إلى نية أمريكا الحفاظ على وجود عسكري قوي في منطقة المحيطين الهادي والهندي.
مهما يكن من أمر، تبدو مسيرة بايدن طويلة، والوقت مبكر للقطع بنجاحاته بالمطلق، لكنه يفعل حسنا حتى الساعة والبقية تأتي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة