بالأمس القريب كتب الروائي والقاص اللبناني إلياس خوري مقالاً بعنوان "هابرماس وشرف الثقافة".
يكيل فيه المديح للمفكر الألماني الفرنكفورتي يورغن هابرماس الذي انسحب بشكل مفاجئ من قبول جائزة الشيخ زايد للكتاب - فرع الشخصية الثقافية بعد قبوله بحماسة وامتنان شديدين. وذهب الناقد الكبير إلياس خوري إلى أبعد من ذلك ليصب جامَّ غضبه على مَنْ أقبل من الكتّاب والأدباء والمفكرين العرب "المندفعين لنيل جوائز السلطان المنغمسة في وحل الاستبداد والتطبيع دون أي رادع أخلاقي".
المدهش في الأمر أن يأتي هذا النقد الغاضب من الروائي إلياس خوري بالذات؛ إذ إنه من أكثر الأدباء والكتّاب العرب تهافتاً على الجوائز السلطانية التي يصفها بأنها "عديمة الأخلاق". فعلى امتداد عشر سنوات حصد الأستاذ إلياس نصيب الأسد من الجوائز الأدبية الثقافية الخليجية التي أصبحت سمة بارزة من سمات لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر.
وللتذكير، إن كان الكاتب السبعيني إلياس خوري بحاجة للتذكير، فقد حصل سنة 2006 على جائزة سلطان بن علي العويس التي تنطلق من الإمارات وتبلغ قيمتها 120 ألف دولار، عن روايته "الجمل بمن حمل". ثم تقدم سنة 2011 وهو في كامل عطائه ونشاطه الأدبي وقواه العقلية لنيل جائزة الشارقة للثقافة العربية التي تقدم عادة بالاشتراك مع منظمة اليونسكو. وعاد مهرولاً سنة 2016 ليفوز بجائزة "كتارا" القطرية عن روايته "أولاد الغيتو.. اسمي مريم"، التي تقدر قيمتها المالية بـ300 ألف دولار أمريكي.
أقلُّ ما يقال عن هذا السجل الحافل وربما المستحق في حصد الجوائز ذات القيمة المعنوية والمادية، إنه هرولة إلياسية مثيرة نحو جوائز أدبية استل أخيراً قلمه ليطعنها في شرفها، ويصفها بأشنع الأوصاف، وبأنها رجس من عمل الفساد والاستبداد والتطبيع إلى آخر تلك الصفات غير الحميدة. آخر من يحقه له أن يتحدث عن الشرف هو عديم الشرف.
الهرولة الإلياسية المدهشة لا تختلف عن الهروب الهبرماسي المثير للدهشة. فهما وجهان متشابهان في موقفهما اللاأخلاقي الواحد. هنا نجد إلياس ضد إلياس، وهبرماس ضد هبرماس، وليتهما استمعا إلى نصيحة المفكر نيتشه بعدم زج الأخلاق في مواقف الهرولة والهروب. المفارقة في خطاب إلياس أنه يطعن في شرف جوائز استحقها عن جدارة. لذلك يحق لكل من هو معجب بكتابته ومقالاته أن يسأل: هل فقد المناضل الكبير إلياس ذاكرته سريعاً، أم أنها صحوة أخلاقية متأخرة، أم هي الأنا المتضخمة لديه، أم أنها ازدواجية مفكر يجيز لنفسه ما لا يجيز لغيره، لتصبح هذه الجوائز المطعونة في شرفها حلالاً عليه، حراماً على غيره من الكتاب والأدباء والمفكرين العرب الذين يتقدمون لنيلها بإقبال يتزايد سنة بعد سنة مطمئنين إلى موضوعيتها ونبل دوافعها وسلامة غاياتها؟
ولنفترض أن هناك صحوة إلياسية مباركة، أليس الأجدر بصاحب الشرف العظيم أن يتحلى بالشجاعة الأدبية، ويعلن على الملأ وهو بكامل قواه العقلية إرجاع هذه الجوائز "المنغمسة في الاستبداد"، بحسب وصفه، لأصحابها الذين أكرموه أيَّما إكرام، وأحسنوا إقباله واستقباله، ويعيد قيمتها المالية كاملة بفوائدها المتراكمة على مدى السنوات العشر الأخيرة؟
لقد تقدم لجائزة الشيخ زايد للكتاب التي تتحلى بالموضوعية، وتشرف على أعمالها لجان علمية عالمية محايدة، وأصبحت الآن حديث الساعة، ونالت من الجدل والشهرة ما لم تنله منذ تأسيسها سنة 2006، في دورتها الحالية سنة 2021، أكبر عدد من المترشحين بلغ 2349 مرشحاً في فروعها التسعة، لتسجل رقماً قياسياً غير مسبوق، وبزيادة 23 في المئة مقارنة بالدورة الماضية؛ أي أنه مقابل كل مُدْبر كالمفكر هابرماس هناك ألفُ مقبل على الجائزة سنوياً.
هؤلاء الكتاب والأدباء والمفكرون والمثقفون من العرب وغير العرب المقبلون بكثافة على جائزة الشيخ زايد والجوائز الخليجية الأخرى أصبحوا في نظر القاص إلياس انتهازيين ومنافقين ومنغمسين في الدفاع عن الاستبداد العربي الأسطوري. وتكفي شهادة الكاتب الألماني يورغن بوز مدير معرض فرانكوفرت بحق نزاهة جائزة الشيخ زايد، وانتقاد كل من الأسقف بول هندر والمترجم الألماني شتيفان فايدنير اللاذع لما سمّياه هروب هابرماس غير الأخلاقي. الكل يعلم، وإلياس خوري أولهم، أن الإقبال على الجوائز ثم الإدبار عنها يحدث مراراً وتكراراً في كل الجوائز العربية والعالمية، بما فيها أكثر الجوائز شهرة كجائزة نوبل، ولا يقلل ذلك من قيمتها، بل يزيدها شهرة ورواجاً. فلماذا التنطع للدفاع عن هروب هبرماس؟
المستغرب في موقف مثقف طليعي كالروائي إلياس خوري ليس تهجمه من دون وجه حق على الجوائز الأدبية والثقافية الخليجية التي تضيء عتمة المشهد الثقافي والفكري العربي، بل جهله بالقيم النبيلة لجائزة أدبية تحمل اسم زايد الخير، الذي لا يختلف اثنان من العرب والعجم على أنه كان حكيماً من حكماء زمانه وليس حاكماً من الحكام الفاسدين والمستبدين. فما يميز هذه الجائزة وبقية الجوائز الأدبية الإماراتية أنها غير مسيسة، ولا تُميّز بين صغير وكبير من الكتاب، ولا تفرّق بين كون المثقف تقدمياً أو رجعياً، يمينياً أو يساري الانتماء. إنها جائزة لا تشتري أحداً ولا تبيع أحداً، بل هي خالصة لوجه ثقافة عربية شريفة تعاني من أقلام متذبذبة تطعنها في شرفها بين الحين والآخر من دون وجه حق.
والمستغرب ثانياً في مقال الأستاذ الكبير إلياس، جهله بدور الإمارات التنويري، وبروزها كنموذج تنموي ومعرفي مشرق وجاذب للعقول والمواهب العربية الشابة والطموحة التي وجدت الملاذ الآمن في الإمارات بعد أن أصبحت الأرض العربية قاحلة ومستباحة من غلاة وغزاة الأمة. الإمارات بسخائها المعهود تقدم حالياً 57 جائزة أدبية وثقافية مختلفة، أي أكثر من أي دولة عربية أخرى، من بينها أشهر وأكثر الجوائز الثقافية والأدبية سخاء مالياً وقيمة معنوية.
وأما المستغرب الثالث فهو جهل المثقف المسيس حتى النخاع إلياس خوري بلحظة الخليج العربي في التاريخ العربي المعاصر. لقد تحول هذا الجزء من الوطن العربي إلى مركز ثقل ثقافي ومعرفي يساهم حالياً في تجديد المشروع التنويري والنهضوي العربي الذي طال انتظاره. المناضل الكبير إلياس وغيره من المناضلين العرب القابعين في أبراج عاجية ينظرون باستخفاف وازدراء واستعلاء مقيت تجاه لحظة الخليج العربي وتجاه شعوب الخليج العربي وحتى جوائز الخليج العربي، ولو كان الود ودهم لاقتلعوا الخليج العربي من كله العربي. عقدة الخليج العربي الذي يعيش عصره الذهبي تسكن قلوب الحاسدين والمتشفين، وهي عقدة لا شفاء منها حتى من كاتب استفاد أكثر من غيره من خيرات الخليج العربي.
والمستغرب الأخير هو دفاع إلياس خوري المثقف العروبي عن هروب المفكر هابرماس، الذي أقبل على الجائزة بحماسة منقطعة النظير ثم أدبر عنها بتبرير غير مقنع إن لم يكن غبياً، بعد أن رضخ لضغط من اليسار الأوروبي، وبعد نشر مقال يتيم لكاتب مغمور في مجلة "دير شبيجل" الألمانية. هذا التذبذب الصارخ في موقف مفكر وفيلسوف بحجم هابرماس مثير للحيرة، ولا يختلف عن تذبذب روائي وكاتب عربي بمستوى إلياس خوري. فهما متشابهان في الهرولة والهروب من ساحة الوغى.
لا تكمن المشكلة في جائزة الشيخ زايد، ولا توجد مشكلة أخلاقية في الجوائز الأدبية الخليجية، بل المشكلة الحقيقية في ظاهرة تقمص المفكر دوراً أخلاقياً أكبر من حجمه، وفي ظاهرة هرولة وهروب المثقف الطليعي. أين كان المثقف الطليعي إلياس خوري عندما هرول نحو الجوائز الشريفة سنة 2006، وسنة 2011 وسنة 2016؟ وأين هو في سنة 2021 عندما استل غمده ليطعن الجوائز السلطانية في شرفها الرفيع.
في مقاله الأخير وجه الأستاذ إلياس خوري الى زملائه من الكتّاب والأدباء العرب بهذا السؤال: هل ننتظر موقفاً من مثقف عربي يعلن انسحابه من جائزة بوكر للرواية العربية، التي تنطلق من أرض الإمارات؟ والأجدر توجيه السؤال إلى صاحب السؤال: هل ستعيد يا أستاذ إلياس الجوائز الخليجية السخية التي حصدتها لأصحابها لتستعيد بذلك الثقافة العربية شرفها؟
لقد أصبحت مصداقية روائي كبير على المحك، فإما أن يتحلى إلياس خوري بالشجاعة الأدبية ويعيد تلك الجوائز ليكون صادقاً مع نفسه وجمهوره أو لا يكون، عند ذلك عليه أن يعيد قلمه إلى جرابه.
نقلا عن النهار العربي
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة