من نافلة القول إنه، ومنذ إطلاق حركة حماس عملية "طوفان الأقصى" ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت الولايات المتحدة دعمها المطلق وغير المشروط لإسرائيل.
دعم دبلوماسي وعسكري، أسهم بلا شك في استمرار الاعتداءات الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، حيث قُتل حتى اللحظة أكثر من تسعة آلاف فلسطيني، وجُرح كذلك عشرات الآلاف.
ومنذ انطلاق هذه الحرب، تباينت ردود فعل الأمريكيين في الداخل، تجاه موقف الإدارة الأمريكية، وقد بدا ذلك واضحاً خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وكان من جميل الأقدار أنني استطعت استمزاج آراء عشرات الصحفيين والسياسيين خلال لقاءات مختصرة أجريتها هنا بجوار الكابيتول، ويمكن أن أزعم أنني توصلت فيها إلى الخلاصات التالية حول موقف الأمريكيين في هذا الشأن:
أولا: الانقسام في صفوف الديمقراطيين: بداية فقد كان الديمقراطيون موحدين تماماً بعد بدء عملية طوفان الأقصى، وظلت الأغلبية الشاسعة من الحزب موحدة خلف إسرائيل مع بدء إطلاقها الضربات الانتقامية على القطاع، ثم بدأ ذلك الموقف يتصدع بشكل متزايد حيث تقدَّم 5 أعضاء ديمقراطيين من التيار التقدمي بالحزب هم: رشيدة طليب، وكوري بوش، وأندريه كارسون، وسومر لي، وديليا راميرز بمشروع قرار يحث الإدارة على الدعوة إلى وقف فوري للتصعيد، وإلى وقف إطلاق النار لإرسال مساعدات إنسانية لغزة، وأيضاً لإنقاذ أكبر عدد من الأرواح.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه خصوصا في السنوات الأخيرة تحوَّل ما يسمى الجناح الليبرالي الشاب للحزب الديمقراطي، وبشكل ملحوظ، نحو التعاطف مع الفلسطينيين، حيث أظهرت مجموعة من استطلاعات الرأي أن الديمقراطيين، ومعهم الأمريكيون الأصغر سناً، لا يتورعون عن القول إنهم باتوا أقل دعماً لمواقف إسرائيل، بل باتوا يطالبون بايدن بالضغط على إسرائيل لحملها على وقف حربها على قطاع غزة بينما يصر من يسمون "الديمقراطيين الوسطيين"، الذين يشكلون القاعدة السياسية لبايدن على الإشادة بموقفه الداعم لإسرائيل، وفي ناحية أخرى ينتقد الديمقراطيون الليبراليون دعم البيت الأبيض "غير المشروط" لتل أبيب.
ثانيا: الاحتجاجات داخل الكونغرس على نهج إدارة بايدن في التعامل مع الأزمة، حيث إنه، وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن جوش بول، مدير مكتب شؤون الكونغرس والشؤون العامة في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية الأمريكية، استقالته من منصبه احتجاجاً على نهج إدارة بايدن في التعامل مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وعلى استمرار المساعدات الأمريكية الفتاكة لإسرائيل.
ثالثاً: الانقسامات العرقية تجاه الموقف من دعم إسرائيل، ففي 11 أكتوبر/تشرين الأول، أظهر استطلاع للرأي أجرته NPR وPBS NewsHour وMarist، أن ثلثي الأمريكيين يرون أن الولايات المتحدة يجب أن تدعم إسرائيل علناً في الحرب القائمة، ولكن هناك انقسامات عرقية واسعة حول هذه المسألة حيث إنه، وبشكل عام، يرى 65% أن الولايات المتحدة يجب أن تدعم إسرائيل علناً، وكان هذا الأمر بالنسبة لأغلبية كبيرة من كلا الحزبين حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن 77% من الجمهوريين، و69% من الديمقراطيين يرون ذلك، كما يعتقد 54% من المستقلين أن الولايات المتحدة يجب أن تدعم إسرائيل علناً، لكن الثلث قال إنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تقول أو تفعل أي شيء.
وقد لاحظت في تلك الاستطلاعات أن هناك فجوات عمرية وعنصرية كبيرة، فنحن نلحظ أن 78% من أولئك الذين يبلغون من العمر 45 عاماً أو أكبر، يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تتخذ موقفاً مؤيداً علنياً لإسرائيل، لكن 48% فقط من أولئك الذين تقل أعمارهم عن 45 عاماً قالوا ذلك. وأيضا وعلى أسس عنصرية فقد قال 51% فقط من غير البيض إن على الولايات المتحدة اتخاذ مثل هذا الموقف العلني الداعم لإسرائيل بينما يعتقد 72% من البيض أنه ينبغي لها ذلك.
وفي نتائج استطلاع آخر أجرته شبكة "سي إن إن" في الفترة من 12 إلى 13 أكتوبر/تشرين الأول، نرى أن نصف الأمريكيين يرون أن الرد العسكري للحكومة الإسرائيلية على هجمات حماس مبرر تماماً، بينما يقول 20% آخرون إنه مبرر جزئياً، ويقول 8% فقط إنه غير مبرر على الإطلاق، ويبقى 21% غير متأكدين.
أما إذا نظرنا إلى الجمهوريين، فيُعتبر الجمهوريون أكثر احتمالاً بكثير من المستقلين أو الديمقراطيين للقول إن الرد مبرر تماماً، حيث نلحظ في الاستطلاع 68% من الجمهوريين يقولون ذلك مقارنة بـ45% من المستقلين و38% من الديمقراطيين، كما أن الأمريكيين الأكبر سناً أكثر ميلاً بكثير من الشباب إلى القول إنه كذلك.
رابعاً: السعي لمنع إيران من الحصول على مبلغ 6 مليارات دولار، فقد ذكر لي أحد النواب هنا في واشنطن أنه وتجنباً لتوفير موارد للإنفاق العسكري داخل حركة حماس، طالب بعض المشرعين الجمهوريين المعارضين لصفقة تبادل السجناء مع إيران، بوقف حصول إيران على مبلغ 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني المجمدة والمحتجزة في كوريا الجنوبية خوفاً من استغلالها في دعم حركة حماس.
ونتيجة لذلك فإنه، وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول اتفق المسؤولون الأمريكيون والحكومة القطرية على منع إيران من الوصول إلى الأموال البالغة 6 مليارات دولار، التي تم فك تجميدها بعد تبادل السجناء في سبتمبر/أيلول الماضي.
خامساً: المطالبة داخل مجلس الشيوخ بوقف إطلاق النار، فقد أرسل 30 عضواً بمجلس الشيوخ رسالة إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن للتعبير عن دعمهم لخطوات الإدارة للقضاء على حماس حتى الآن، ولكنهم أيضاً طالبوه بالعمل من أجل وقف إطلاق النار، لأن الحل لن يتحقق بالوسائل العسكرية، وقد كتب الأعضاء في رسالتهم أن "الحفاظ على أمن إسرائيل لا يتعارض مع المساعدات الإنسانية الأساسية لسكان غزة"، مطالبين بإيصال الدعم إلى المدنيين الأبرياء، وقد رد بلينكن على رسالة موظفيه بأن نهج الإدارة تجاه الأزمة "متوازن".
سادساً: الانتقادات التي طالت إدارة بايدن بسبب إهمالها دعم الفلسطينيين، حيث تم تداول رسالة موقعة من أكثر من 400 مسؤول حكومي أمريكي من المسلمين واليهود تنتقد إدارة بايدن بسبب إهمال دعم الفلسطينيين.
وورد في الرسالة أن "ملايين الأرواح مهددة. عائلاتنا وتاريخنا وتقاليدنا الدينية متجذرة بعمق في القدس وإسرائيل وفلسطين. وباعتبارنا أبناء الناجين من العبودية والمحرقة والاستعمار والحرب والقمع، نشعر بأننا مضطرون لرفع أصواتنا في هذه اللحظة".
واستطردت الرسالة: "إننا ننضم إلى أعضاء الكونغرس والمجتمع الدولي في إدانة جرائم الحرب المروعة التي ارتكبتها حماس، لكن في الوقت نفسه نحزن على المدنيين الفلسطينيين الذين يعيشون معاناة كارثية على أيدي الحكومة الإسرائيلية".
سابعاً: مطالبة الجمهوريين بفصل المساعدات لإسرائيل عن المساعدات لأوكرانيا، حيث تصاعد النقاش بين أعضاء الكونغرس حول طلبات تمويل الحلفاء الدوليين، إذ تؤكد أصوات معارضة على ضرورة الفصل بين المساعدات العسكرية لكل من إسرائيل وأوكرانيا.
ويتنامى الضغط على الرئيس بايدن للإسراع بالمساعدات لتل أبيب، وقد أكد الجمهوريون على رفضهم الشديد لدمج المساعدات لأوكرانيا في مشروع قانون لإسرائيل، حيث إنه، وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول، أرسلت مجموعة من 9 أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ رسالة إلى قيادة مجلس الشيوخ، حثت فيها الكونغرس على فصل محاولات تقديم المساعدة العسكرية لإسرائيل عن الأموال الإضافية لأوكرانيا أو أي مسائل أخرى. وأشارت الرسالة إلى أن محاولة حشد الدعم للمساعدات الإسرائيلية للحصول على مساعدات إضافية لأوكرانيا سيكون غير مناسب في نهاية الأمر.
في خلاصة، يمكنني القول، وانطلاقاً ممَّا سبق، إن ردود فعل الأمريكيين تجاه التصعيد العسكري بين حماس وإسرائيل والموقف من نهج إدارة بايدن في التعامل مع الأزمة القائمة يظهر مدى عمق الانقسامات في صفوف المجتمع الأمريكي، لا سيما بين الجمهوريين والديمقراطيين من جهة، وبين الشباب والمواطنين الأكبر سناً من جهة أخرى، ناهيك عن الاتجاه الجديد الذي شهدته الحكومة الأمريكية عبر استقالة أحد أفراد وزارة الخارجية الأمريكية احتجاجاً على نهج بايدن "غير المتوازن" في التعامل مع الأزمة.
ولا شك أن الأيام المقبلة ستحمل الكثير في هذه الأزمة المتجددة في الشرق الأوسط وصولا إلى تأثيرها على الداخل الأمريكي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة