المتتبع جيدا لمسارات المحاكمات، وتوجيه الاتهامات لكل من الرئيس الحالي جو بايدن، والرئيس السابق ترامب يكتشف أن هناك مَن يخطط لفتح باب الانتخابات الرئاسية مبكراً، وقبل موعد إجراء الانتخابات الاستهلالية بأشهر عدة.
خاصة أن الخريطة الحزبية متقلبة ومتغيرة، وتتسم بعدم الثبات، والسيولة السياسية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري بصرف النظر عما يجري، وفي ظل مخاوف حقيقية من الخيار القادم.
والرئيسان معاً تطولهما تهم مختلفة، فالرئيس السابق لا يزال متهماً، ومثل أمام محكمة فيدرالية حيث وجهت إليه، وبصورة رسمية، 37 تهمة جنائية، دفع ببراءته منها كلها، وتركزت في الاحتفاظ بوثائق سرية حكومية احتفظ بها بعد انتهاء ولايته في 2021، ورفض إعادتها حين طلب منه رسمياً ذلك، والتآمر لعرقلة عمل المحققين الذين كانوا يسعون لاستعادتها، والكشف عن أسرار أمريكية خاصة لأشخاص لا يحملون تصاريح أمنية، في قضية أكثر خطورة من القضايا الأخرى التي واجهها، ويمكن أن تصل عقوبتها إلى عقود من السجن، كما تضمنت لائحة الاتهام المكونة من 49 صفحة، صوراً تظهر الصناديق التي كان من المفترض أن تكون في الأرشيف الوطني، مكدسة في قاعات في منتجع مارالاغو، مقر إقامة ترامب، وقد أصبح الرئيس السابق ترامب أول رئيس سابق في تاريخ الولايات المتحدة يلاحق قضائيا أمام محكمة فيدرالية.
في المقابل، يتوقع أن يكون استجواب الرئيس الأمريكي جو بايدن في إطار قضية الوثائق، وقضايا شخصية تخص أسرته قائمة بعد أن جمع مكتب التحقيقات الفيدرالي أدلة كافية لاتهام نجله هانتر بايدن، بارتكاب جرائم ضريبية والإدلاء ببيانات كاذبة لشراء سلاح، وتفاصيل أخرى تطول الرئيس جو بايدن نفسه، وترتبط باستهدافه قضائياً، ولو على مستوى الإطار التقليدي.
والسؤال كيف يجري ذلك في نفس التوقيت، وبالتزامن مع رئيس سابق، ورئيس راهن، وكأن هناك من يحرك الأمر عبر آليات قضائية محكمة، وبآليات مكررة، وأمام قضاء فيدرالي.
فهل بالفعل يجري ذلك عبر مؤسسات الدولة العميقة والممتدة، التي توجه وتسيطر، وتقود الدولة الأمريكية في هدوء، وصمت وعبر سياسات محددة، ولصالح بقاء أمريكا الدولة الأقوى، مع الأخذ في التقدير مصالح هذه الدولة، ومراكز قوتها السياسية والاقتصادية والاستخباراتية في العالم، التي تعمل من خلال منهج محدد؟
كما أنها تتدخل في توقيت واضح وموجه بهدف إعادة الأمور إلى نصابها وإحكام السيطرة على مفاصل الدولة في توقيت معين بعد أن تأثر النموذج الأمريكي المقدم للعالم بعد حالة الفوضوية التي عمت الولايات المتحدة في نهاية عهد الرئيس السابق ترامب.
الواضح، وبصورة جلية، ومن حيث التوقيت يعني أن الرئيسين السابق والراهن، يتعرضان لحملة من الاتهامات وسيصبحان في حال توجيه الأدلة والبراهين متهمين- مع الفارق في القضايا وصحتها ودقتها، وما ستنتهي إليه - الأمر الذي سيؤثر على مسارات الحملات الانتخابية.
وقد يؤدي ذلك في السيناريو الصفري إلى خروجهما من المشهد السياسي والحزبي الراهن، أو على الأقل تأثرهما شعبياً مما يجري وصعود آخرين، وإن كانت فرص كل طرف مختلفة - كما تبدو حال ترامب - هي الأسوأ فيما صنفت الوثائق التي اكتشفت في مكتب بايدن على أنها معلومات حساسة وسرية، ما يشير إلى أن المواد قد تتضمن معلومات عن أساليب ومصادر جمع المعلومات الاستخبارية.
كما تضمنت الوثائق معلومات عن أوكرانيا وإيران وبريطانيا، ومن الـ300 وثيقة التي اكتشفت في حوزة الرئيس ترامب، صُنفت واحدة بأنها معلومات حساسة وسرية.
وقدم فريق الرئيس السابق بعض المواد للحكومة، بما في ذلك الوثائق السرية، لكن أمناء المحفوظات لم يجدوا أن فريق الرئيس كان متعاوناً بشكل كامل.
في المجمل تطرح هذه الاتهامات على الجانبين، وللرئيسين الحالي والسابق جملة من الإشكاليات المتعلقة بالأوضاع العامة في الساحة الحزبية الأمريكية، ومنها المتعلق بالموقف الشخصي وفقاً لرؤية الرئيس جو بايدن، ومنها ما يزيد من إحراج الرئيس بايدن، ويتوقع أن يخيم على حملته الانتخابية على مدى أشهر طويلة مماطلة وزارة العدل في التحقيقات مع نجله وترددها في توجيه الاتهام إلى هانتر بايدن، وإخفاقه في الوفاء بالمواعيد النهائية لتقديم الإقرارات الضريبية.
وفي المقابل استمرار اتهام الرئيس السابق ترامب، للرئيس جو بايدن بأنه عمل من أجل إقالة مدعٍ أوكراني لحماية شركة غاز تُدعى بوريسما من ملاحقات بتهم فساد حين كان نجله هانتر عضواً في مجلس إدارة المجموعة.
وهذه القضية الأوكرانية أدت إلى إطلاق إجراء عزل تاريخي بحق الرئيس ترامب، بعدما واجه اتهامات من قيادات الحزب الديمقراطي بأنه استغل مهامه الرئاسية عبر ممارسة ضغط على أوكرانيا لكي تحقق حول منافسه السياسي والأنشطة التجارية لابنه.
وقام مجلس الشيوخ في نهاية المطاف بتبرئته، وفي تقدير الحزب الجمهوري أن لائحة اتهام الرئيس السابق ترامب لها دوافع سياسية.
واللافت في إطار ما يجري من توجيه اتهامات مفتوحة على سيناريوهات متعددة ما تتبناه سياسات الدولة العميقة والممتدة، التي تمس تحالف الرئيس ترامب مع عدد من عناصر وقيادات المال في وول ستريت، ومجموعات النفط، بالإضافة إلى مجموعة من الجنرالات، والقوميين البيض، والكنائس الإنجيلية المحافظة.
وكانت إدارته تضم عدداً من الشخصيات البارزة في عالم المال والأعمال، ومجموعات من متعهدي الشركات الأمنية الخاصة، وخبراء في العمل في وول ستريت والبنوك، ومجموعة روتشيلد، وليمان برزر، وغيرهم.
وفي المقابل لا تزال مؤسسات المال المصنفة ودوائر التأثير الاقتصادي وعشرات من المؤسسات الفيدرالية، وقيادات مجموعات اللوبيهات الداعمة، سنداً للرئيس الأمريكي جو بايدن، وللحزب الديمقراطي بالأساس، وتترقب الفرصة للتعامل وتمويل كل الأنشطة الانتخابية، وسيكون من الصعب التكهن بمواقفها مع بدء الحملة الانتخابية التأهيلية بعد عدة أسابيع من الآن.
والسؤال ماذا بعد؟ وما البديل والسيناريو المقابل على مستوى التنافس الحزبي وفي مواجهة ما يجري من قبل الحزبين؟ فعلى سبيل المثال سيتغير الأمر داخل الحزب الجمهوري خاصة مع دخول حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس ساحة المواجهة في الانتخابات الرئاسية، وإعلان أنه يهدف إلى عودة أمريكا العظمى.
ودخل أيضاً مايك بنس، الذي يقدم نفسه للناخبين كجمهوري محافظ تقليدي على غرار الرئيس الأسبق رونالد ريغان، والحاكمة السابقة لولاية ساوث كارولاينا، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في إدارة ترامب، التي تعتمد على سنها الصغيرة نسبياً مقارنة ببايدن وترامب، وغيرهم من أمثال كريس كريستي، وتيم سكوت، وآسا هاتشينسون، وغلين يونجكين، وفيفك راماسوامي وآخرين.
وفي المقابل، فإن الحزب الديمقراطي يواجه أزمة كبيرة بسبب الظروف الصحية للرئيس الأمريكي جو بايدن، وفي ظل صعود دور روبرت كينيدي جونيور، وهو نجل السيناتور الأمريكي روبرت كينيدى الذي اغتيل عام 1968 في أثناء ترشيحه للرئاسة.
وماريان ويليامسون وكانت قد ترشحت عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية الرئاسية لعام 2020، لكنها انسحبت من السباق قبل الإدلاء بأي أصوات.
وأخيراً فإن الواقع السياسي والاقتصادي الحقيقي يشير إلى أن هناك أمريكا أخرى خلاف ما تبدو على السطح. ليست أمريكا الظاهرة فقط بل أمريكا العميقة والممتدة أيضًا، والموجودة في كل مكان في أرجاء الولايات المتحدة وفي مختلف مؤسسات صنع القرار على مختلف درجاته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة