احتيال بمليار دولار.. قصة رائدة أعمال وعدت العالم بإنترنت فائق السرعة
إليزابيث بيرس نجمة الاتصالات اللامعة ومؤسسة شركة كوينتيليون جمعت ملايين الدولارات لتنفيذ مشروع ضخم في القطب الشمالي.
على مدار العقود الماضية، كان تركيب خطوط ألياف ضوئية في القطب الشمالي حلما لكثير من عمالقة التكنولوجيا حول العالم؛ إذ يعني ذلك إمكانية تشغيل إنترنت فائق السرعة بشكل مستقر ومستدام عبر خط يمر في تلك المنطقة الهادئة بعيدا عن مسار الخطوط البحرية المعتادة القريبة من تحركات البشر والتي غالبا ما تواجه مشاكل تخريب أو كوارث طبيعية أو غيرها، وفقا لبلومبرج.
حلم كهذا ظل مستحيلا لسنوات طويلة في ظل الظروف المناخية شديدة الصعوبة في القطب الشمالي، فضلا عن الحاجات التمويلية الهائلة لمشروع غير مؤكد النجاح، لكن في عام 2012، بدا الحلم قريبا من الواقع؛ إذ أسست إليزابيث بيرس شركتها الناشئة كوينتيليون Quintillion المتخصصة في الاتصالات السلكية واللاسلكية، وقدمت مشروعها الأضخم لمجتمع الأعمال: خط ألياف ضوئية يمر من آسيا إلى أوروبا عبر القطب الشمالي ليقدم إنترنت أسرع بكثير جدا للكوكب بأكمله.
المشروع الحلم
الخطة النظرية كانت تعتمد على مد خطوط الألياف من أقرب النقاط الأمريكية إلى ولاية ألاسكا (حيث تقطن بيرس) لتمد سكان ومجتمعات الولاية ذات المساحة الضخمة والتعداد المنخفض بإنترنت أسرع بكثير وأقل تكلفة من إنترنت الأقمار الصناعية الذي تعتمد عليه المنطقة، ثم جمع تمويلات لبدء عمليات مد خطوط جديدة إلى اليابان وفي المرحلة الثالثة مد الخطوط إلى بريطانيا.
بدت الفكرة قابلة نوعا ما للتنفيذ، خاصة مع ارتفاع الطلب عالميا على الإنترنت السريع، وإنفاق عمالقة التكنولوجيا بما في ذلك جوجل وفيسبوك ويوتيوب الكثير من الدولارات على الكابلات عالية السرعة تحت الماء، حتى يتسنى لعملائها مشاهدة خدمات مثل "نتفلكس" و"يوتيوب" بأقل قدر من التأخير، وبالتالي تقدم فكرة بيرس حلا بديلا للخطوط المعتادة في المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ والتي كثيرا ما تعرضت لمشاكل بمسار أكثر مباشرة عبر القطب الشمالي يجعل سرعات الإنترنت أعلى بكثير.
كذلك، حظيت فكرة بيرس بمزيد من المعقولية لا سيما أن تغير المناخ قد فتح مسارات أكثر في القطب الشمالي، ما يعني تسهيل العمل على تركيب الخطوط تحت الطبقة الجليدية.
عقب التأسيس، أمضت بيرس وشركاؤها المؤسسون الذين لديهم جميعًا خبرة في العمل في شركات الاتصالات في ألاسكا معظم عام 2013 في إجراء البحوث وتقييم المخاوف البيئية والتفاوض على طرق الكابلات مع القبائل الأصلية القاطنة في المنطقة، وتوصلوا إلى أن المرحلة الأولى فقط لمد خطوط الألياف إلى ألاسكا تتطلب 14 سفينة و275 تصريحًا حكوميًا، ويحتاج كل هذا إلى تمويل.
رحلة جمع التمويل
حملت بيرس مشروعها إلى المستثمرين باعتباره فرصة استثمارية كبيرة، وعلى مدى السنوات اللاحقة، كانت بيرس قد تحولت باسم هذا المشروع إلى نجمة لامعة في عالم الاتصالات، حيث حضرت العديد من المؤتمرات الضخمة والندوات للحديث عن مشروعها الذي أسر الجماهير.
تغير أيضا نمط حياة بيرس –عضوة نقابات ألاسكا وأحد المشاركين في المفاوضات العمالية في التسعينيات– ففي خلال تلك الفترة بلغ متوسط دخل بيرس ما لا يقل عن 146 ألف دولار سنويا من الرواتب والمزايا الأخرى، وفقا لسجلات الشركة، كما عاشت هي وزوجها في منزل من 4 غرف نوم.
وخلال تلك السنوات، ولدى مقابلاتها مع المستثمرين لجمع التمويل، قالت بيرس إنها أبرمت عقود تمويل مع مستثمرين بارزين بقيمة مليار دولار، وبناء على ذلك اقتنع البعض بالفكرة، وجمعت بشكل مباشر 270 مليون دولار من المستثمرين الذين أعجبوا بقدرتها على إبرام عقود خدمات الاتصالات الكبرى.
في عام 2016 بدأت شركة كوينتيليون بناء شبكة الكابلات التابعة لها تحت البحر بالشراكة مع "الكاتيل" لكن القاع كان أكثر صلابة مما كان متوقعًا، وسرعان ما تزايد سوء الأحوال الجوية فاضطرت بيرس إلى وقف العمليات وتأخير المشروع لمدة عام.
ومع تعطل المشروع وجهل المستثمرين بشركائهم أول الوضع على الأرض، زادت الضغوط على بيرس للكشف عن موقف المشروع وعن الشركاء، لكنها تجاهلتهم أحيانا وماطلت أحيانا أخرى.
بحلول منتصف عام 2017، نفدت أعذار بيرس وكثف المستثمرون ضغوطهم عليها ولم تعد قادرة على إخفاء مخططها، فقدمت استقالتها من الشركة بعد إخفاء جميع الوثائق المتعلقة بـ"عقود المليار دولار".
اعتقال "المحتالة"
في أبريل 2018 أعلنت وزارة العدل عن اعتقال بيرس، بعد تحقيق كشف عن أن بعض من وردت أسماؤهم في العقود والصفقات الضخمة لم يتعهدوا بدفع مبالغ كبيرة كما ادعت بيرس، بينما كشف البعض الآخر عن أنهم لم يوافقوا على دفع أي مبلغ على الإطلاق! كانت التوقيعات مزورة والعقود وهمية.
وبحسب وثائق المحكمة، لم تكن أي شركة قد استثمرت أي أموال في شركة بيرس حتى عام 2015.
في 30 سبتمبر 2019، بعد أكثر من عام من إجراءات المحاكمة، بدأت بيرس قضاء عقوبة بالسجن لمدة 5 سنوات بعد أن أقرت بأنها مذنبة في تهمة احتيال واحدة و8 تهم انتحال شخصية.
وقالت وزارة العدل الأمريكية إنها تعتقد أن كل رأس المال الاستثماري الذي حصلت عليه بيرس تقريبا تم الحصول عليه عن طريق الاحتيال.
رغم ذلك؛ تقول "بلومبرج" إن سلوك بيرس لم يكن مختلفًا كثيرا عن سلوك مؤسسي التكنولوجيا والمديرين التنفيذيين الآخرين الذين يعدون الممولين بأرباح هائلة في الأفق.
وقد عبر القاضي في تلك المحاكمة عن ارتباكه، قائلا إنه بالنظر إلى النجاح المهني الذي حققته بيرس وعدم وجود سجل إجرامي لها "ظلت دوافعها لارتكاب هذه الجرائم لغزًا".
ضحايا بيرس
لكن بعض المقربين من العمل مع بيرس لفتوا إلى أن ثمة "طمعا قاد إلى هذه النهاية".
أحد الممولين غير الرئيسيين لشركة بيرس، كان جوليان جينسين أحد معارفها القدامى الذي آمن بمعقولية المشروع عندما قابلها عام 2013، وقدم لها ثلث مدخراته عبر تحرير شيك بقيمة 100 ألف دولار من أصل 3 شيكات أخرى بلغ مجموعها 325 ألف دولار.
وأوضحت وثائق المحكمة أن بيرس أودعت قيمة الشيك في حسابها المصرفي الشخصي وفي اليوم نفسه تعاقدت على خطة التقاعد الخاصة بها مع مؤسسة "ويلز فارجو" وحولت لحساب التقاعد 30 ألف دولار، كما استخدمت أموال جينسين لاحقا في سداد فواتير زوجها وبطاقات الائتمان والرهن العقاري وتغطية نفقات الأسرة واستثمار 10 آلاف دولار في أعمال بناء خاصة بعائلتها.
المشروع مستمر!
وحاليا تحاول الشركة إصلاح سمعتها والاستمرار في مشروعها بعد تعيين جورج ترونسرو رئيسا تنفيذيا جديدا للشركة، والذي نجح بالفعل في إنجاز الجزء الأول من المشروع عبر توصيل كابلات الألياف الضوئية إلى ألاسكا.
وتربط شركة "كوينتيليون" نحو 10 آلاف شخص في ألاسكا حاليا بالإنترنت السريع، بالإضافة إلى المدارس المحلية والمستشفيات والعملاء التجاريين الآخرين.
وليس من الواضح ما إذا كانت كوينتيليون ستكمل هدفها الأسمى المتمثل في إنشاء كابل إنترنت من آسيا إلى أوروبا عبر القطب الشمالي، لكن الرئيس التنفيذي الجديد يصر على أن الهدف لم يتغير رغم أنه يتطلب تمويلا بـ800 مليون دولار، وفي ظل إعلان جهات أخرى عن دخولها حلبة المنافسة لتنفيذ الفكرة.