لعل وصف الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، رئيس وزراء، وزير خارجية قطر، للهجوم الإسرائيلي على الدوحة بـ«الغادر»، يكفي لتأطير ما جرى من اعتداء سافر على السيادة القطرية.
فالقضية اليوم لم تعد في تفاصيل الحدث بقدر ما تكمن في استيعاب خطورته، فهو الانتهاك الثاني خلال عام واحد؛ إذ سبقت إيران في صيف 2025 بمحاولة استهداف قاعدة العديد في الداخل القطري، وها هي الدوحة نفسها تتعرض في العام ذاته لهجوم عسكري، لكن هذه المرة من إسرائيل.
لا يمكن تحت أي مبرر قبول انتهاك السيادة القطرية من الطيران الإسرائيلي، تمامًا كما لم يُقبل من قبل انتهاك الصواريخ الإيرانية، هنا قطعية لا تقبل المساومة.. أمن قطر وسيادتها وشعبها خط أحمر عريض بالنسبة للخليج العربي.
فالمسألة لا تقتصر على حدود سياسية، بل تمس وجدان الخليجيين وتمس وجودهم الممتد على هذه الأرض التي كانت يومًا صحارى مقفرة، تُوصَف بالتأخر عن ركب الحضارة، غير أن أهلها غيّروا وجه التاريخ، وحوّلوا مدنهم إلى منارات عالية، واستثمروا في أرضهم وصنعوا نهضتهم بأيديهم.
ولذلك، فإن كل خليجي يشعر اليوم بغصّة تشبه تلك التي سكنت الصدور في أغسطس/آب 1990، فالغدر، أيًّا كان مصدره، يبقى الغدر.
وما جرى في الدوحة لا يمكن قراءته إلا في سياق استهداف متعمد للبنية الأمنية الخليجية، وإعادة اختبار لقدرة هذه المنظومة على حماية نفسها.
ولطالما راهنت قطر على لعب دور الوسيط، ولطالما نجحت في وساطاتها، من لبنان إلى السودان، ومن حماس إلى طالبان، غير أن هذه البوابة الخلفية لم تعد كافية، عليها اليوم أن تدرك أن الوساطة لا تعصم صاحبها من أن يكون في مرمى النيران، وأن الحياد المعلن لا يقي من غدر القوى الكبرى حين تعيد رسم خرائط الصراع.
الدوحة التي فتحت قنوات للحوار مع واشنطن وطهران وتل أبيب، تجد نفسها فجأة على لائحة الأهداف، وكأن الرسالة أن الوسيط قد يُستعمل لكنه لا يُحمى.
إن هذا الاعتداء الإسرائيلي لا يُقرأ بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع، فبعد حرب الاثني عشر يومًا بين إسرائيل وإيران، ومع تصاعد هجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر، صار الخليج بأسره في قلب معركة مفتوحة تتجاوز حدود غزة أو بيروت أو دمشق أو صنعاء، والدوحة التي حاولت أن تظل ساحة تفاوض، وجدت نفسها ساحة مواجهة.
بالنسبة للوجدان الخليجي، المسألة تتجاوز قطر نفسها، إنها مسألة الكرامة والسيادة، من البحرين إلى الكويت، ومن الرياض إلى مسقط، لا يمكن النظر إلى قصف الدوحة إلا بوصفه إنذارًا بأن كل مدينة خليجية قد تكون غدًا هدفًا تحت مبررات واهية.
وهذا يعيد إلى الذاكرة لحظة الغزو العراقي للكويت عام 1990، حين اكتشف الخليجيون أن أمنهم كلٌّ لا يتجزأ، وأن سقوط مدينة واحدة يعني اهتزاز الكيان برمته، الفرق أن مشهد 1990 كان صادمًا بفظاعته، أما اليوم فإن المشهد يتكرر بصيغة جديدة.
عواصم الخليج أصبحت جزءًا من معادلة الردع والرسائل النارية بين القوى الإقليمية والدولية، فلا إيران تتردد في استهداف قاعدة أمريكية على أرض خليجية، ولا إسرائيل تجد غضاضة في إرسال طائراتها لتقصف عاصمة خليجية، هذه هي الخطورة التي يجب التوقف أمامها بأن تتحول عواصم الخليج من ملاذات استقرار وازدهار إلى ساحات تجارب نارية.
لقد آن الأوان لإعادة صياغة مفهوم الأمن الجماعي الخليجي، لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالتصريحات والتنديد، بل لا بد من استراتيجية رادعة تضع خطوطًا حمراء لا يجرؤ أحد على تجاوزها.
فما حدث في الدوحة اختبار حيّ.. هل لا يزال الخليج قادرًا على أن يكون جبهة متماسكة، أم أننا سندفع ثمن التباينات السياسية بين العواصم؟.
إن الأمن الخليجي لا يمكن أن يكون ملفًا ثانويًا في لحظة تاريخية كهذه، فالمعادلات تتغير بسرعة، والرسائل التي تُرسل عبر السماء لا تستهدف فقط مبان أو مواقع، بل تهدف إلى زرع الشكوك في قلوب الشعوب وفي ثقة الدول بنفسها.
وهنا تكمن أهمية التذكير بأن وحدة الخليج ليست شعارًا سياسيًا فحسب، بل هي شرط وجودي لحماية هذه الأرض من أن تتحول إلى "حديقة خلفية" لصراعات الآخرين.
ما أصاب قطر مساء التاسع من سبتمبر/أيلول ليس حدثًا معزولًا، هو رسالة إلى الخليج كله، من الرياض التي تقود مسار حل الدولتين، إلى أبوظبي التي ترفع "الفيتو" الأخلاقي أمام ضم أراضٍ فلسطينية الضفة، إلى الكويت والبحرين اللتين تدركان أن أي استهداف لعضو في المنظومة يمس الجميع، ولذلك، فإن الرد لا بد أن يكون جماعيًا، بروح تعيد للأذهان موقف مجلس التعاون في 1990، حين أعلن أن أمن الكويت هو أمن الجميع.
الغدر الذي أصاب الدوحة يضع أمام الخليج معادلة جديدة فإما أن يكون قادرًا على حماية نفسه، أو أن يتحول إلى ساحة مباحة لكل طامع، وهنا، لا بد من استدعاء الحكمة التاريخية التي أدركت أن الدفاع عن المدن يبدأ من وحدة الصف، وأن السيادة لا تُحمى بالشعارات بل بالقدرة على الردع.
الدوحة في صباح الغدر الإسرائيلي لم تكن مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بل كانت مرآة تكشف عُري المنظومة الأمنية العربية، وما لم يتحوّل هذا الدرس إلى لحظة يقظة، فإننا سنجد أنفسنا أمام أغسطس جديد، بأسماء مختلفة وأعلام مختلفة، لكن بالمرارة ذاتها.
إن الرسالة التي يجب أن تصل واضحة هي أن الخليج ليس فراغًا جغرافيًا ولا مجرد منطقة اقتصادية، بل هو قلب الأمن العربي، وأي مساس بعاصمة أو مدينة فيه هو مساس بكرامة أمة كاملة، الغدر يبقى غدرًا، لكن الصمت أمامه خيانة مضاعفة.
هذه لحظة يقظة فاصلة تفرض ألّا يُمنح الإسلام السياسي، بمختلف تسمياته وراياته، أي مساحة من ثقة أو تهاون، والتجربة المريرة ماثلة أمامنا.
فما فعلته عدن حين فتحت أبوابها للفصائل الفلسطينية، واحتضنت معسكراتهم، وقدّمت لهم ما لم تقدّمه حتى لمواطنيها، انتهى بخيانة مدوّية تجلّت في طعنة حرب صيف 1994 التي استهدفت الجنوب في صميمه، ذلك درس دامٍ من التاريخ، ومن لم يتعظ بغيره دفع الثمن بنفسه، فليحفظ الله الدوحة والخليج كله من غدر الغادرين وخيانة المتاجرين بالشعارات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة