أمريكا الشمالية، الممتدة من القطب الشمالي إلى المكسيك، لا تزال تمثل إحدى الركائز الأساسية في تشكيل ملامح النظام الدولي.
فالقارة، بقيادة الولايات المتحدة، تحتفظ بثقل اقتصادي وعسكري وتكنولوجي هائل، غير أن التغيرات المتسارعة داخلياً وخارجياً تدفعها لإعادة تعريف دورها ومكانتها في عالم متعدد الأقطاب.
وإذا كان القرن العشرون قد عُرف بقرن الهيمنة الأمريكية، فإن القرن الحادي والعشرين يفرض على القارة تحديات جديدة مع صعود قوى منافسة وتكتلات ناشئة.
الولايات المتحدة تشكّل العمود الفقري للقارة؛ فهي أكبر اقتصاد عالمي وصاحبة أوسع شبكة تحالفات عسكرية وسياسية.
غير أن نفوذها يواجه ضغوطاً متنامية نتيجة صعود الصين كمنافس استراتيجي في آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، واستمرار روسيا في تحدي النظام الأمني الأوروبي عبر حرب أوكرانيا، فضلاً عن بروز دور الاقتصادات الصاعدة في الجنوب العالمي.
على الصعيد الداخلي، تعاني واشنطن من انقسامات سياسية واجتماعية عميقة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، واستقطابات حادة حول قضايا الهجرة والحقوق والسياسات الاقتصادية، ما يضعف قدرتها على القيادة العالمية بالفاعلية التي عرفها القرن الماضي.
كندا، بدورها، تحاول تعزيز موقعها كقوة وسطية مستندة إلى منظومتها الديمقراطية وثرواتها الطبيعية.
وهي تركز على قضايا المناخ والطاقة النظيفة وحقوق الإنسان، مقدمةً نموذجاً بديلاً يقوم على الدبلوماسية المتعددة الأطراف.
لكنّ موقعها القريب من القطب الشمالي يجعلها أمام تحديات جيوسياسية متزايدة، خاصة مع تنامي التنافس الدولي على المنطقة مع ذوبان الجليد وفتح ممرات بحرية جديدة.
أما المكسيك، فهي حلقة الوصل بين أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية، كما أنها مركز صناعي متنامٍ ضمن سلاسل الإمداد العالمية، خصوصاً في ظل اتفاقية التجارة الحرة (USMCA).
وتستفيد المكسيك من قربها الجغرافي من الولايات المتحدة ومن موجة إعادة توطين الصناعات، لكنها تواجه في الوقت ذاته تحديات خطيرة مرتبطة بالجريمة المنظمة وتجارة المخدرات وضعف الدولة في بعض المناطق، مما يحد من استقرارها الداخلي.
غير أن التكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث لم يعد سلساً؛ إذ تظهر بوضوح معضلة الجمارك، فالولايات المتحدة تسعى لحماية صناعاتها الوطنية في مجالات مثل السيارات والصلب والألبان، فيما تدافع كندا والمكسيك عن مصالحهما الزراعية والصناعية.
وقد أدت هذه الخلافات المتكررة إلى فرض رسوم متبادلة تهدد وحدة السوق المشتركة وتقلق الشركات المعتمدة على سلاسل إمداد متكاملة.
هذا يبرز أن المصالح الوطنية لا تزال تتقدم على مقتضيات التكامل الاقتصادي.
من جهة أخرى، يفرض التغير المناخي تحديات وأولويات جديدة. فالموارد الطبيعية والممرات البحرية الناشئة في القطب الشمالي تجذب اهتماماً متزايداً، ما يفتح الباب أمام تنافس أمريكي–روسي–كندي قد يصبح من أبرز ملفات الصراع الجيوسياسي المقبل.
في المقابل، تحاول دول القارة لعب دور قيادي في مواجهة التغير المناخي عبر التحول نحو الاقتصاد الأخضر والاستثمار في الطاقة النظيفة.
في المحصلة، تظل أمريكا الشمالية لاعباً محورياً في إعادة تشكيل العالم. وإذا تمكنت من التكيف مع التحولات الجارية وتجاوز أزماتها الداخلية والخلافات الاقتصادية، فإنها ستحتفظ بدور قيادي في صياغة النظام الدولي الجديد.
أما إذا فشلت، فقد تجد نفسها مضطرة إلى مشاركة القيادة مع قوى صاعدة، في مشهد دولي أكثر تعقيداً وتعددية مما كان عليه في القرن الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة