أصبح الإعلام في العصر الحديث إحدى أهم أدوات القوة الناعمة للدول، فلم يعد دوره يقتصر على نقل الأخبار أو متابعة الأحداث، بل تحول إلى صناعة استراتيجية تسهم في صياغة السرديات وبناء الصورة الذهنية والتأثير في الرأي العام المحلي والعالمي.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى قلب المشهد الإعلامي، باتت الحاجة ملحّة إلى جيل جديد من القيادات الإعلامية القادرة على الجمع بين الرؤية الاستراتيجية، والمهارات التقنية، والبعد الإنساني.
القائد الإعلامي المستقبلي ليس مجرد مدير لغرفة أخبار أو متحكم في محتوى رقمي، بل هو صانع سردية ومهندس ثقة ومؤثر في مجريات السياسة والدبلوماسية والاقتصاد. إنه يحتاج إلى رؤية واسعة تدرك أن الإعلام أصبح أداة للقوة الناعمة ورافعة للمكانة الدولية، وفي الوقت نفسه يجب أن يتقن تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات ورصد توجهات الرأي العام لحظة بلحظة، وأن يتحلى بقدرة استباقية على مواجهة الأزمات وحماية السمعة وبناء المصداقية عبر رسائل شفافة وواضحة.
كما أن هذه القيادة المستقبلية لا تكتمل من دون بعد إنساني وقيمي يعزز الثقة مع الجمهور ويجعل الإعلام أداة للتواصل لا أداة للتضليل والانقسام.
وليس من المستغرب أن تتسابق دول من مختلف القارات إلى الاستثمار في إعداد هذا الجيل من القادة. ففي آسيا، تقدم الصين نموذجًا بارزًا من خلال إدماج الذكاء الاصطناعي في الإعلام عبر “الصحفي الروبوت”، في حين تعمل سنغافورة على ربط الجامعات الكبرى مثل نانيانغ بشراكات مع BBC وGoogle لتأهيل كوادر إعلامية تجمع بين التقنية والرسالة الإعلامية.
أما كوريا الجنوبية فقد جسدت فكرة القوة الناعمة من خلال صناعاتها الثقافية مثل K-drama، حيث يجري إعداد جيل إعلامي قادر على تصدير الثقافة الكورية عالميًا وصياغة صورة حضارية حديثة لبلاده.
في أوروبا، تنوعت التجارب بين بريطانيا التي يقود فيها معهد رويترز بجامعة أكسفورد أبحاثًا وبرامج متقدمة حول الإعلام والذكاء الاصطناعي وأخلاقيات المهنة، وبين فرنسا التي تركز عبر مدارسها العريقة على الصحافة الاستقصائية والعمل في بيئات متعددة الثقافات، وصولًا إلى ألمانيا التي أنشأت أكاديمية دويتشه فيله لتصبح منصة دولية كبرى لإعداد قيادات إعلامية من قارات عدة، عبر برامج تدمج التحول الرقمي بالبعد التنموي.
وفي الأمريكيتين، برزت الولايات المتحدة عبر كولومبيا وهارفارد في تأهيل قيادات إعلامية تفكر في الإعلام كجزء من منظومة السياسة والتقنية، بدعم من مؤسسات ابتكارية مثل Knight Foundation التي تستثمر في مشروعات مستقبلية للصحافة.
أما كندا فقد مزجت بين الإعلام وحقوق الإنسان وتحليل البيانات في برامجها الأكاديمية، فيما ركزت أستراليا على الإعلام البيئي والرقمي لتأهيل قادة يتعاملون مع قضايا التنمية المستدامة.
حتى أفريقيا لم تكن بعيدة عن هذا المسار، حيث تقدم جنوب أفريقيا نموذجًا مهمًا من خلال جامعة رودس التي ربطت الإعلام بالتنمية المجتمعية، فخرّجت قادة يفكرون محليًا ويتصرفون عالميًا، ويرون في الإعلام أداة لبناء الوعي وتحفيز التغيير الإيجابي.
هذه النماذج المختلفة من آسيا وأوروبا والأمريكتين وأفريقيا تؤكد أن إعداد القادة الإعلاميين للمستقبل لا يعتمد فقط على دراسة الإعلام بمعناه التقليدي، بل يقوم على دمج الإعلام بالتقنية والعلوم السياسية والاقتصادية والإنسانية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إنشاء أكاديميات متخصصة في إعلام الذكاء الاصطناعي، تطرح مناهج حديثة، وتوفر مختبرات متطورة، وتبني شراكات مع مؤسسات دولية، لتخريج قادة إعلاميين عالميين قادرين على حماية أوطانهم وصناعة سرديات إيجابية للعالم.
إن استشراف مستقبل الإعلام يعني الاستثمار في الإنسان أولًا، فالقادة الحقيقيون هم الذين يجمعون بين الفكر والرؤية والتقنية والقيم. وعندما يتوافر هذا الجيل الجديد من الإعلاميين القادرين على تحويل الإعلام إلى جسر للتواصل والتعايش، سيصبح الإعلام قوة إيجابية تصنع المستقبل وتبني جسور الثقة بين الشعوب، فيما يتحول قادته إلى صناع أثر عالميين في عالم بالغ التعقيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة