قمة اللغة العربية -التي أنهت أعمالها 19-20 ديسمبر/كانون الأول- هي مبادرة طال انتظارها وأصبح للحالمين بها والداعين لها حدث ثقافي أقرته الإمارات العربية المتحدة، مؤخراً.
وأعلنت محاوره وتوجهاته الوزيرة النشيطة والمتميزة نورة بنت محمد الكعبي، التي اعتبرت القمة "دعوة للتخطيط المستقبلي" للانتقال بلغة "الضاد" لأفق جديد تكون فيه سيدة اللغات، على أمل أن تستعيد مكانتها الحضارية وألقها التاريخي في مخاطبة العالم المنتج للثورات العلمية والصناعية والإسهام، ولو بالنزر اليسير، في خدمة وتقدم الإنسانية، وبتوازن يحافظ على الهوية الجمعية العربية ويستمر، بندية، في تقاربه وتفاعله مع غيره من الثقافات.
اللافت والمهم في موضوع هذه الدعوة الإماراتية، هو اهتمامها الخاص بالهوية الثقافية العربية التي تعد خندق الدفاع الأخير عن الوجود العربي المُهَدد من كل جانب، لتركز بشكل خاص على اللغة، كخطوة أولى، كونها دون منازع، أساس الثقافة العربية والوجدان القومي العربي، والعامل الجامع بين العرب والفاصل بينهم وبين غيرهم "د. محمد ج. الأنصاري، من مقال: "لا تعقدوا قمة ثقافية دون برنامج عمل واستعداد لتنفيذه"، "الجريدة" الكويتية، يناير/كانون الثاني 2010"، وهي خطوة لطالما اعتبرها "الأنصاري" المدخل المثالي والممهد لعمل أو تأسيس عربي مشترك يعتني بآليات النهوض الثقافي لمعالجة أسباب التخلف العلمي العربي الذي يبدأ بسلاح اللغة، فلا علم يدخل "عقل" الأمة بغير "لسانها"، حسب وصفه.
أما الأمر الآخر الذي تتميز به هذه المبادرة الهادفة والطموحة، هو إضفاء الطابع الحكومي على هذا الحدث بالشراكة مع مركز أبوظبي للغة العربية، وبرعاية رفيعة المستوى من نائب رئيس الدولة حاكم دبي، وهذا في حد ذاته من مقومات وقوف الحدث على أرضية خصبة ستأخذ بالمشروع، وحسب العرف الإماراتي، إلى حيز التنفيذ بعيداً عن البيانات والتوصيات التي اعتدنا، عربياً، حفظها في الجوارير.
لا أعتقد أن هناك ناطقاً واحداً باللغة العربية لا يتفق مع حقيقة أنها تواجه شتى أنواع المخاطر، وتعاني إهمالاً غير مسبوق تتعدد أشكاله وتختلف وسائله بين من يعادي أي تحرك في اتجاه تعريب المعارف والعلوم، وبين ما تفعله بعض النخب من ضرر للغة العربية لتأثر ألسنتها بلغات المربيات الأجنبيات، وما تعاني منه تلك النخب أحياناً، من لبس غريب يختزل الحداثة والتقدم في الإكثار من الرطانة الأجنبية، أضف إلى ذلك الضعف الذي تعاني منه المدارس الوطنية في مواجهة هذا المد من المؤثرات التي تهدد نقاء اللغة العربية.
وأكاد أجزم بأن هناك الكثير من المشاريع التي تدعم اللغة العربية، وتطالب بحمايتها من أجل المحافظة على وجود ناطقيها، الذين يقدرون بمئات الملايين على أقل تقدير، وهو ما يحذر بشأنه العديد من المفكرين ممن يجدون في مثل هذه المشاريع قشة نجاة للوجود العربي وما يواجهه من تقسيمات جغرافية تتأرجح بين تسميات لا نعرف لها أصلاً ولا فصلاً، المهم، في نهاية المطاف، تفكيك خريطة الأمة العربية وإرباك لسانها... فلا عروبة تبقى ولا انتماء يستمر للغة القرآن.
في حقيقة الأمر، وحسب تقديري المتواضع، فإن مشروع إحياء اللغة العربية واستعادة مكانتها في النفوس والعقول والضمائر يتطلب استراتيجية عربية وعملاً جماعياً منظماً، تجمعه رؤية تخرج عن المألوف وتفكر خارج إطار الصندوق الذي كتم أنفاس اللغة، فأصبح تدريسها منفصلاً عن سوق العمل التي تتخاطب بغيرها من اللغات، رغم وجود أكثر من نموذج ناجح حافظ على لغته وصنع من خلالها نموذجه الحضاري ونهضته الصناعية وتقدمه الإنساني، سواء التفتنا إلى شرق أمة العرب أو غربها أو حتى شمالها.
ناهيك بتأثر اللغة العربية بما ينتشر حولنا من محاولات عشوائية ومشوهة لبنيتها على منصات التواصل الاجتماعي، الذي يختصر الأفكار، ويوجز الكلام، ويقفز على أصول السرد البلاغي والإثراء اللغوي الذي تحتاج إليه أي لغة لتحيا وتزدهر.
قد يقول البعض، بأن المنصات نفسها تستخدم من قبل الآخر المتقدم، ويستمر عبر هذه الوسائل بنشر كل ما يهوى ويريد، ولكن مع فارق علينا التنبه له، وهو أن الفرنسي أو الصيني تنتظم أفكاره وينسج خياله من خلال وحدة واحدة للغته الأم بينما نحن -كعرب- تنساب لغتنا في بحور عشرات اللهجات التي تقترب من، أو تبتعد عن اللغة العربية في أدنى الحدود المقبولة لناطقيها. دون أن نغفل عن حضور تلك اللغات ضمن الإيقاع الأكبر الذي تنظمه سياقاتهم الثقافية والفكرية والبحثية وحتى الفنية... فلا خطاب ولا إبداع ولا إنتاج ولا تفكير إلا بالرجوع إلى لغاتهم.
أنا لست بمختصة بعلوم اللغة، ولا أدعي تمام التحدث أو الكتابة بلغتي الأم، ولكني وجدت في "المبادرة الإماراتية" عودة من غربة طويلة لمن يعتز بعروبته ويخاف عليها من الذوبان والتوهان في عالم يتمسك بهوياته الثقافية ويعتبرها مصدراً لقوته واستمرار وجوده، وهو تحدٍ خاضع لعملية إنقاذ جماعية للغة العربية تأخذ في الاعتبار رصيدها الغني -حضارياً وفكرياً وعقائدياً- وتنظر للمستقبل بمرونة ورحابة أفق وبكثير من الثقة بأن للعربية مكاناً... هناك في المقدمة... لتكون لغة الحياة والنور.
وحسبي أن في العُرْبِ ضياها...
لذا لا تلُمني في هواها...
فأنا لا أهوى سواها...
كما قال المتنبي المعتز بعروبته في مدحه للغة البيان والإعجاز.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة