المكفوفون وكرة القدم.. آلام ودموع وأحلام مؤجلة
تعد كرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى في العالم، والتي تسحر القلوب والعقول والأذهان، وتكتسب كل يوم جمهورا جديدا وحبا بلا حدود.
تلك الشعبية الجارفة منحت كرة القدم لقب الساحرة المستديرة، لقدرتها على السيطرة على عقول وقلوب كل محبيها ومتابعيها، حتى إن ذلك السحر امتد إلى أولئك الذين لا يستطيعون رؤيتها، بعدما حرمهم القدر من نعمة البصر.
فأن تعشق الكرة بعد مشاهدة مباريات مثيرة أمر طبيعي، وأن تتعلق باللعبة لأنك مارستها في الطفولة وأيام الصبا أمر معتاد.. لكن أن تتعلق باللعبة وأنت لم تشاهدها من قبل فهذا هو المثير للدهشة.
هذه السطور تلخص ببساطة حكاية عدد كبير من المكفوفين الذين عشقوا كرة القدم من وراء ستار، ومنهم من مارسها صغيرا قبل أن يحرمه القدر من نعمة البصر.
فما هي حكاية المكفوفين مع كرة القدم؟ ولماذا كل هذا الحب منهم لها؟ وما أحلامهم في المستقبل؟ ولماذا تغلق الأندية الكبرى في الوطن العربي أبوابها أمام لاعبي الكرة من تلك الفئة التي تمتلك عشقا خاصا لا حدود له للعبة وتحلم بأن تتاح لها فرصة لممارستها بشكل منتظم أسوة بالمبصرين؟
كل تلك التساؤلات وغيرها تحاول "العين الرياضية" طرحها والإجابة عنها في السطور التالية.
بداية الحكاية
بدأت حكاية المكفوفين مع كرة القدم من خلال اختراع ألماني نمساوي، انتشر في بعض البلدان منها مصر والمغرب والجزائر وعدد من الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حيث أراد الألماني سيب ريندله والنمساوي هانز لورينزن التخفيف من وطأة صدمة فقدان عدد كبير من الجنود الألمان أبصارهم خلال الحرب، واخترعا لعبة كرة الجرس، التي تسببت في سعادة بالغة للجنود المصابين.
وبدأت كرة الجرس في الانتشار داخل دور الرعاية الصحية ومراكز رعاية المكفوفين في ألمانيا والنمسا، وبدون قوانين معقدة أو ملزمة بدأ المكفوفون في مداعبة الكرة في ملاعب صغيرة على أن يتبارى فريقان، كل فريق يضم 3 لاعبين، يسعى كل منهم لهز شباك المنافس عن طريق رمي الكرة باليد لتتدحرج على الأرض. وحتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي لم تكن هناك قواعد واضحة، لكن مع تعاقب الأجيال وتطور الألعاب باتت تلك اللعبة تتطلب وجود 3 لاعبين بكل فريق في الملعب ومثلهم خارجه، وأصبح ملعب كرة الطائرة هو الأنسب لممارستها، حيث يبلغ طوله 18 مترا وعرضه 9 أمتار، ويوضع في نهايتيه مرميان بعرض الملعب كاملا.
وعرف العالم اللعبة بشكل أكبر عام 1976 بالأولمبياد الخاص الذي أقيم بمدينة مونتريال بكندا، ومنذ ذلك الحين أصبحت رياضة أساسية في الأولمبياد الخاص الذي يقام كل 4 سنوات، قبل أن يشهد عام 1978 إقامة أول بطولة عالم لكرة الجرس بالنمسا، لتقام بعدها كل 4 سنوات بإشراف الاتحاد الدولي لرياضة المكفوفين.
هكذا كانت البداية.. لكن عشق الساحرة المستديرة جعل المكفوفين أو ضعاف البصر لا يتوقفون في تلبية شغفهم باللعبة وممارستها عند كرة الجرس فقط، بل إنهم اتجهوا لممارسة كرة القدم بطريقة مماثلة تقريبا للكرة الخماسية.
وهنا تختلف قوانين اللعبة تماما عن كرة الجرس.. فالأخيرة تلعب باليد عن طريقة دحرجة الكرة، لكن في كرة القدم للمكفوفين يبدو الأمر مختلفا كثيرا، فمداعبة الكرة تكون بالقدم وهناك من يجري ويراوغ ويسدد بكل إتقان ويحتفل أيضا بهز الشباك، وهنا تظهر قمة المتعة والإثارة.
على ملاعب الصالات تقام مباريات كرة القدم للمكفوفين، بنفس قوانين الكرة الخماسية تقريبا، حيث يضم كل فريق 5 لاعبين سواء من فاقدي البصر تماما أو من ضعاف البصر المقيدين في سجلات اتحاد المكفوفين، ويرتدي الجميع عدا حارس المرمى قناعا على العين لمنع الرؤية تماما لمن يمتلك بصيصا من نظر حتى يتساوى الجميع وتسود العدالة.
استثنى قانون اللعبة حارس المرمى من ارتداء قناع العين حيث يكون مبصرا، فضلا عن المُرشد الذي يكون مُبصرا أيضاً لكنه يتواجد خارج ميدان اللعب، ومهمته تكمن في إرشاد اللاعبين على أرض الملعب وأماكن تحركهم، وهو دور يشبه ما يقوم به المدرب في كرة القدم المعتادة.
حكايات من دفتر الآلام
حصدت لعبة كرة القدم للمكفوفين شعبية كبيرة في مصر أكثر من غيرها من البلدان العربية، وقد التقت "العين الرياضية" ببعض الذين كانت لهم حكايات مع تلك اللعبة من أجل الحديث عن تجربتهم معها، وكيف تسلل عشقها إلى قلوبهم رغم ما مروا به من ظروف صعبة ومعاناة كبيرة.
قفزة تحول المسار
أن تكون مبصرا وتفقد البصر فبكل تأكيد يتملكك شعور مختلف، وهذا ما حدث مع أحمد عوين، الرئيس الحالي لاتحاد ألعاب المكفوفين في مصر، الذي كان من بين هؤلاء الذين عاشوا التجربة الصعبة والاختبار العنيف.
عوين الذي حصل على الدكتوراه في اللغة العربية كان يلعب كرة القدم هنا وهناك في سن الطفولة، قبل أن يفقد بصره ويصبح واحدا من أصحاب القصص المشوقة مع كرة القدم للمكفوفين، حيث يقول: "كنت طفلا ذكيا ومحبا للحياة ألعب كرة القدم وأعشق القراءة، وأتجول بين أندية الإسكندرية على شاطئ البحر والساحات والشوارع المفتوحة التي تستقبل مئات الشباب العاشقين للعبة".
لعب عوين -الشاب الطويل قوي البنيان المولود عام 1962- في نادي النصر بالمندرة بالإسكندرية، ولم يكتف بكرة القدم فقط بل خاض تجارب مهمة في ألعاب القوى، وتحديدا في الوثب العالي والجري الطويل, وخلال أحد التدريبات القوية قام بوثبة حماسية فسقط على رأسه بشكل عنيف خلع قلوب مدربيه، وشعر بعدها بأنه ليس على ما يرام.
يقول عوين: "شعرت بأننى لا أرى شيئا للحظات، وشاهدت ظلاما، لكن سرعان ما عاد النور لعيني، والغريب أننى كنت متحمسا لاستكمال المران"، لكن مع إصرار المدربين على خلوده للراحة غادر التدريبات وقضى ليلته بشكل طبيعي قبل أن يعاود رحلته مع الرياضة في اليوم التالي لكن مع كرة القدم، حيث كان المدرب سيختار قائمة نهائية لتمثيل الفريق في مباراة رسمية بدورى منطقة الإسكندرية لكرة القدم، وهو اليوم الذي ينتظره كل المقيدين بصفوف النادي.
بدأت "التقسيمة" بين فريقين، واستعد عوين لتنفيذ ضربة البداية ولعب الكرة لزميله، وكان "ظهره" أمام شعاع الشمس، لكنه بمجرد أن استدار للجري نحو مرمى المنافس شعر بعدم اتزان خاصة بعدما أصبح شعاع الشمس أمام عينيه.
يقول عن تلك اللحظة: "شعرت بأن هناك أمرا ما.. الضباب يسيطر على الرؤية بشكل لم أعتده من قبل، لكني كالعادة لم أهتم، وواصلت اللعب.. في الحقيقة لم أكن أرى زملائي أو الكرة بالشكل الصحيح, وصلت لمنطقة جزاء الفريق المنافس، وعندما وصلتني الكرة وفقا لجملة متفق عليها مع أحد زملائي المقربين شعرت بأنني على مقربة من هز الشباك، لكن عند لحظة التسديد لم أر أي شيء، وسددت الهواء وليس الكرة".
هنا شعر عوين بالصدمة.. حاول الخروج من الملعب دون أن يلاحظ أحد، وبصعوبة شديدة وصل لخط التماس وجلس على الأرض، لا يستطيع أن يصرح لأحد بحقيقة الأمر، لكنه غادر الملعب وترجل على قدميه لمدة نصف ساعة حتى الوصول للمنزل، ويقول عن تلك اللحظة: "كانت هذه أصعب نصف ساعة في حياتي كلها.. كنت أسير تائها، أكاد أرى بصعوبة بالغة"، ليتذكر سقطته خلال مران الوثب العالي.
دخل عوين حجرته هادئا دون أن يشعر به أحد، ولم يكن يتحدث على الإطلاق.. كان الصمت يسود المنزل إلا من صوت الراديو الذي دائما ما تستمع الأم إليه، بينما كان والده لا يزال في عمله.
مرت ساعات ولا يزال أحمد في غرفته حتى نادت عليه والدته لتناول العشاء برفقة والده الذي عاد للتو من عمله.. وعندما جلس على طاولة الطعام لم يكن يفكر سوى في حيلة لعدم إشعار الأم بأي شيء، لعل الله يغير من حاله.. ورغم انشغاله بالتحايل عليها فقد سقط في الفخ.
عندما بدأ عوين في الأكل حاول توجيه يده لطبق البيض لالتقاط لقيمات منه، لكن يده فضحته بعدما ضلت الطريق وفشلت في مهمتها، ليسمع بعدها صوتا هائلا.. إنه صوت لطمة الأم على صدرها بعدما أدركت أن ابنها يعاني من مكروه، وهو يحكي بتأثر واضح عن تلك اللحظة بقوله: "سألتني بهفة شديدة: (مالك يا حبيبي؟)".. وهنا حانت لحظة الحقيقة والاعتراف بالأمر الواقع، فسقطت الدموع من عينيه وسط صدمة عنيفة للأم والأب.. لقد فقد أحمد بصره للأبد.
يقول عوين: "كنت لاعب كرة متمكنا وصاحب أسلوب مميز داخل الملعب، وأجيد صناعة اللعب وأحظى بثقة زملائي، وعندما لعبت معهم دون أن أرى أحدا مارست نفس الأسلوب، ومررت كثيرا من الكرات، وصنعت العديد من الفرص، وسط ضحكات من زملائي أحيانا، وحزن مكتوم على حالي في أحيان أخرى.
حاول أصدقاء عوين إخراجه من الحالة النفسية السيئة التي سيطرت عليه، وكان كلما حضر مرانا للفريق شارك في تسديد ركلات الجزاء في نهاية المران، وبمجرد أن التحق بإحدى جمعيات رعاية المكفوفين اتجه نحو كرة الجرس، وقد كان من الجيل الأول الممارس للعبة، لكنه في بداية المشوار وجدها لعبة مملة لا ترضي طموحه أو تشبع غروره، وقال لنفسه: "كيف ألعب الكرة باليد وقد كنت واحدا من نجوم قطاع الناشئين لكرة القدم وأجيد اللعب بكلتا القدمين والرأس؟".
اعترض عوين على كرة الجرس لكنه لم يجد غيرها، لكن الكراهية تحولت لحب جارف بعدها، ليصبح أحد أهم لاعبي كرة الجرس، ومناصرا قويا لها، ومدافعا عنها ومشجعا لكل شاب كفيف على ممارستها، والغريب أنه أصر أيضا على ممارسة الوثب العالي، تلك الرياضة التي حرمته من نظره.. لكنه "التحدي".. ليصبح عوين واحدا من القلائل المكفوفين في العالم الذين يمارسون كرة الجرس والوثب العالي.
في تلك الأثناء وبعد شهور قليلة من تعلق عوين بكرة الجرس جرى تأسيس منتخب مصر لكرة الجرس للمكفوفين، عام 1979 فلحق بالجيل الأول ودخل التاريخ من أوسع الأبواب، وبعدما كان يحلم في الصغر باللعب في الدوري الممتاز لكرة القدم، والانضمام لمنتخب مصر، غير القدر مسار عوين وأصبح لاعبا لمنتخب مصر أيضا لكن في كرة الجرس.
مرت السنوات وأصبح عوين رئيسا لاتحاد ألعاب المكفوفين في مصر، ويطمح لنشر لعبة كرة القدم للمكفوفين، مطالبا الأندية الشهيرة في مصر والعالم العربي بالاستماع إلى صرخات تلك الفئة، وفتح نافذة أمل جديدة لكل كفيف عاشق للكرة ومتعلق بقمصان فريقه المفضل.
يقول عوين عن ذلك: "طالما حلمت بأن يكون لدينا في مصر فريق الأهلي وفريق الزمالك لكرة القدم للمكفوفين.. وطالما سألني العديد من الشباب حول إمكانية تحقيق هذا الحلم.. وأنا أنتظر الإجابة في أقرب وقت".
حب من دون نظرة
"هناك فارق كبير بين كفيف ولد هكذا، وشخص ضعيف البصر أو طفل فقد البصر بعد سنوات.. أنا ولدت كفيفا، لا أعرف ما شكل الأخضر أو الأحمر.. وهذا النوع تصوره للدنيا والحياة يبدو مختلفا".. هكذا تحدث بخيت عزيز أحد من خاضوا فصولا من الرحلة مع كرة القدم للمكفوفين.
في عام 1964 ولد بخيت عزيز لاعب منتخب مصر السابق في كرة الجرس، والعضو الحالي بمجلس إدارة اتحاد ألعاب المكفوفين، لكنه لم يتصور أن يتعلق بالرياضة بمثل هذا الحد، ويقول: "عشت كفيفا.. وقضيت طفولتي في مدرسة النور بالإسكندرية، وكنا نتعلم ونلعب أيضا.. كنت أشتاق لممارسة أي رياضة، لكن بمجرد أن تقابلنا أي قطعة معدنية مصنوعة من الصفيح أو غيره نقوم بتطبيقها لممارسة كرة القدم، ونسددها هنا وهناك مستفيدين من الصوت الذي تحدثه.. لكنها كانت لعبة خطيرة بالطبع".
ويضيف عزيز: "لقد عشقت كرة القدم دون أن أراها.. حب بدون نظرة واحدة.. كنت في طفولتي أقول لنفسي: لماذا يلعب المبصر كرة القدم وأنا أعجز عن ذلك؟ كنت أحب اللعبة بسبب الحديث المتكرر عنها.. عشقتها من السمع، فصنعت كرة من الشراب، ووضعت داخلها قطعا من الطوب حتى تحدث صوتا أعرفه".
كان بخيت يشجع فريق الأهلي ويعشق الاتحاد والأولمبي، ويستمع للراديو لمتابعة نتائج المباريات قبل أن يقوده عشقه للعبة لبدء مسيرته مع كرة الجرس والوصول إلى تمثيل منتخب مصر للعبة فيما بعد.
أما أحمد أبوزيد فقد عانى كثيرا من ضعف البصر خلال مرحلة الطفولة.. أخذ يجري ويلهث خلف كرة القدم وهو طفل يحبو، وعندما وصل للسنة الرابعة في المرحلة الابتدائية أصاب عينه ميكروب ليفقد الإبصار من عينه اليسرى ويستعيض عنها بعين صناعية، لكنه استمر في مدرسته العادية بالإسكندرية غير أن قدرته على الإبصار كانت تتناقص يوما بعد آخر.
يقول أحمد: "طبيبة عيون شهيرة صدمت أخي الأكبر محمد عندما أكدت له أنني سوف أفقد بصري قريبا، وبناء عليه لا بد أن ألتحق بمدرسة المكفوفين".. ورغم ذلك ظل أحمد يلعب الكرة في كل مكان، ولم يرتبط بأي لعبة أخرى، فقد عشق الساحرة المستديرة وحدها.
أصيب أبوزيد بانفصال في الشبكية عند التحاقه بالمرحلة الإعدادية واستسلم للأمر الواقع، لكنه ظل يلعب الكرة مع الاهتمام بالدراسة حتى حصل على ليسانس الآداب قسم لغة عربية، ولم يترك كرة القدم عبر علبة "السالمون" التي كان يستعين بها لمداعبة محبوبته في كل مكان، قبل أن يصبح أحد رواد لعبة كرة الجرس ونجما بمنتخب مصر بعدها.
يقول أبوزيد: "كنت وزملائي نستخدم علبة السالمون.. كانت هي الحل الأمثل للعثور على شيء يمكن ركله بالأقدام".. ورغم صعوبة وأضرار ذلك ظل يركل علبة السالمون، وكان يصاب بمكروه في قدمه من حين لآخر، لكنه في كل مرة كان يجدد التحدي، حتى استكمل مشواره مع كرة الجرس لتعوضه عن شغفه بالساحرة المستديرة.
ضحايا الساحرة المستديرة
محمد عبدالفتاح، لاعب منتخب مصر للمكفوفين لسنوات طويلة، كان مبصرا يجري وراء الساحرة المستديرة في كل مكان، وخلال مباراة قوية وساخنة بملعب مدرسته تصدى لتسديدة نارية من أحد زملائه فاصطدمت الكرة بعينيه ففقد بصره في الحال، لكنه رغم ذلك لم يكره أبدا تلك اللعبة العجيبة.
وتكرر نفس المشهد تقريبا مع لاعب آخر هو مراد العجوز، البالغ من العمر 33 عاما والمدرس الحالي للغة العربية، حيث عاش 12 عاما من حياته مبصرا عاشقا للجري هنا وهناك، ويصفه أقرانه بأنه من أشقى أطفال القرية القابعة في مركز طوخ بمحافظة القليوبية شمال مصر، على بعد ساعة واحدة من قلب القاهرة.
دخل مراد في تحد جديد بعد فقدانه البصر وعرف كرة الجرس داخل إحدى مدارس المكفوفين، ولم يكن وقتها يعرف أي شيء عن تلك اللعبة المجهولة، لكنه تحمس لمرافقة زملائه بدلا من الجلوس وحيدا.. فقبل فقدان البصر كان يعشق الكرة ويجوب القرى المجاورة ليشارك في الدورات الرمضانية، يتألق هنا وهناك ويستفيد من صغر جسمه في تخطي المنافسين، ولذلك تعلق بكرة الجرس التي منحته فرصة المنافسة والفوز والانتصار ليشارك في بطولة دوري مدراس متحدي الإعاقة بالاسماعيلية.
كان مراد وزملاؤه يضعون كرة عادية في كيس من البلاستيك لإحداث صوت يتعرف من خلاله اللاعبون على مكان الكرة.. وكان العجوز يمتلك إدراكا حسيا وحركيا واضحا، وينقض على الكرة في الوقت المناسب، وهو ما كان يبهر الجميع للدرجة التي كانت تحير الكثيرين.. فمنهم من اعتقد ذات مرة أنه يرى بشكل طبيعي.
قبل فقدانه للبصر كان مراد معتادا على متابعة مباريات الأهلي الذي يشجعه وكذلك منتخب مصر.. ولا ينسى هدف أحمد حسن لاعب الفراعنة في مرمى جنوب أفريقيا خلال نهائي كأس أمم افريقيا 1998.
سلاح محمد صلاح
تعلق مراد بالراديو الذي كان يسمع من خلاله تفاصيل كل مباراة، حيث أصبح ذلك الجهاز الصغير صديقا له طوال الوقت.. في البيت، في المواصلات، وفي النادي.. يلبي شغفه لمتابعة لعبته المفضلة.. لكن الحلم الكبير لمراد لم يتحقق بعد.. وهو مقابلة محمد صلاح نجم منتخب مصر وفريق ليفربول الإنجليزي، والذي يقول عنه: "حضرت العديد من مباريات مصر على أمل مقابلة صلاح، لكن الحلم لم يتحقق حتى الآن، ولا يزال لديّ أمل في مقابلته لأنني أحبه فقط".
الطموح هو أكثر ما يعجب مراد في شخصية محمد صلاح الذي أصبح واحدا من أهم وأشهر نجوم العالم.. ويستخدم مراد سلاح نجم ليفربول في تشجيع أطفال قريته على النجاح، فدائما ما يقول لهم "احلموا مثل محمد صلاح ابن القرية المصرية الذي نشأ في أسرة متوسطة الحال وأصبح أسطورة عالمية".
أما محمد بديع فقد فقد بصره وعمره 19 عاما، وطوال سنوات الطفولة والمراهقة ارتبط بكرة القدم.. وكان يلعب في الشوارع والساحات الشعبية ويصنع الكرة الشراب.
يقول بديع: "لم أترك كرة القدم يوما واحدا خلال سنوات الطفولة.. كنت أجري في شوارع عابدين (إحدى المناطق الشعبية العريقة بالقاهرة) وأصل لشارع رمسيس بجوار المستشفى القبطي لأتحدى فرقا أخرى.. كنت الأمهر في صناعة الكرة الشراب من الإسفنج، وخلال ساعة واحدة فقط"، مضيفا: "ذات يوم لعبنا أمام فريق طه بصري نجم الزمالك السابق بمنطقة الجبل الأصفر، وقد كان رجلا رائعا".. ونظرا لحبه للأهلي انضم لاختبارات قطاع الناشئين، لكنه لم يكتب له النجاح.
فقد بديع بصره، لكنه واصل مشوار النجاح.. اهتم بالدراسة والعمل وتوقف عن الذهاب للملاعب، لكنه عندما وصل لسن الأربعين اشتاق لكرة القدم مرة أخرى، ليلتحق بفريق كرة الجرس رغم كبر سنه، وظل يلعب حتى سن الستين، وهو رقم قياسي كبير، ليكتفي بعدها بمتابعة كرة القدم عبر أثير الراديو.
يقول بديع "أنا لا أعرف المستحيل، وكل حياتى تحديات، لذلك لعبت كرة الجرس حتى سن الستين".. ويحكي عن أطرف موقف تعرض له: "ذات يوم نزلت الملعب في مباراة مهمة وشاركت في آخر الدقائق وسجلت هدفا، وفجأة انفجرت الصالة بهتاف الجماهير (جدو.. جدو)"، في إشارة إلى كبر سنه.. وظل الهتاف لصيقا به بعدها حتى الاعتزال".
"لو بطلنا نحلم نموت"
لعب العديد من المكفوفين كرة الجرس ثم كرة القدم للمكفوفين فتحول العشق الممنوع إلى مسموح ومتاح ولازم وضروري.
وبعيدا عن كرة الجرس فإن البعض يرجعون ظهور كرة القدم للمكفوفين إلى العشرينيات من القرن الماضي، حيث كان الطلاب المصابون بإعاقة بصرية كاملة يمارسونها داخل المدارس الخاصة بالمكفوفين مستخدمين بعض الأدوات البلاستيكية أو المعدنية التي تصدر أصواتا عند الحركة محاولين تقليد المبصرين في ممارسة اللعبة الأكثر شعبية في العالم.
لكن اللعبة ظلت تمارس عشوائيا حتى سنة 1987 حين تمت صناعة أول كرة قدم تحتوي على أجراس بمدينة تولوز الفرنسية، وتم استخدامها من طرف الطلاب المكفوفين، قبل أن يقرر الاتحاد الدولي لرياضات المكفوفين عام 1996 ضم اللعبة لقائمة الرياضات التي يشرف عليها.
وتمت صياغة أول نسخة من القواعد الدولية المنظمة لهذه الرياضة بمشاركة بعض حكام كرة القدم المتطوعين، ليتم تنظيم أول بطولة دولية سنة 1997 في إسبانيا، ومنذ ذلك الحين واصل الاتحاد الدولي لرياضات المكفوفين نشر هذه الرياضة وتوسيع قاعدة ممارسيها في مجموعة من دول العالم، وتنظيم البطولات القارية كل سنتين وبطولة العالم كل 4 سنوات، إضافة إلى منافسات كرة القدم خلال الألعاب البارالمبية الصيفية كل 4 سنوات بعد اعتمادها لأول مرة سنة 2004.
وانتشرت اللعبة في دول عديدة حتى إن ممارسيها في بعض البلدان مارسوها بقوانين خاصة بهم، لكن المحصلة أن الكل كان يشارك في المتعة وإن اختلفت اللوائح.
تلك المتعة التي تدفع الكثير من المكفوفين لأن يحلموا بممارسة كرة القدم مثلهم مثل نظرائهم من الأصحاء.. وهو ما عبر عنه بكلمات بسيطة وطليقة ومعبرة ميدو الشوربجي، أحد لاعبي أول فريق مصري لكرة القدم للمكفوفين، حيث قال: "لو بطلنا نحلم نموت.. فلماذا لا نلعب كرة القدم مثل الأسوياء المبصرين؟".
وأضاف ميدو أنه يحلم باليوم الذي يرتدي فيه المكفوفون قمصان الأهلي والزمالك، مطالبا الناديين باتخاذ قرار حاسم وتأسيس فرق لكرة القدم للمكفوفين، ومطالبا اتحاد الكرة المصري برعاية الفكرة بعيدا عن اللجنة البارالمبية أو اتحاد ألعاب المكفوفين.
مثل تلك الحكايات تكشف للوهلة الأولى مدى عشق المكفوفين لكرة القدم دون رؤيتها، وهو ما يمثل علاقة من نوع خاص جدا.. عشق في الظلام.. حب جارف من خلف العيون.. لكن الصدمة الكبرى تكمن في المعاناة التي يمر بها كل كفيف عاشق للكرة وغير قادر على ممارستها رغم الجهود الكبيرة التي تبذل من بعض الأفراد أو المؤسسات الخيرية.. وهو ما دفعنا لطرح السؤال الأهم على المكفوفين: هل تعد كرة القدم بالنسبة لكم هي العشق الممنوع؟
ربما كان يقين علي أبوالنصر، مؤسس لعبة كرة القدم للمكفوفين في مصر، أن هناك اختلافا جوهريا بين تلك اللعبة وكرة الجرس هو ما جعله يصر على إدخالها إلى مصر، وتكوين فريق قوي واعتماده بشكل رسمي.
وربما تقترب مباريات الكرة للمكفوفين من تلك المباراة التي خاضها الفنان المصري القدير عادل إمام في فيلم "أمير الظلام" مع عدد من المكفوفين، ووقتها لم يلعب عادل إمام ورفاقه كرة الجرس (أو الهدف) بقوانينها المعروفة، بل لعبوا كرة القدم داخل الصالة المغطاة لاستاد القاهرة، وهي اللعبة التي بات يعشقها المكفوفون الآن.
وقد سارع علي أبوالنصر للتوجه إلى اتحاد الكرة المصري أملا في إنشاء لجنة خاصة للمكفوفين داخل الاتحاد مثلما هو الحال في بعض البلدان الأخرى، لكنه فشل في مقابلة مسؤوليه الذين تهربوا منه أكثر من مرة رغم تعهده بعدم تكليف الاتحاد أية أموال، وتأكيده أن اللعبة ستكون أداة لجذب الرعاة في أقرب وقت.
يقول أبوالنصر: "هناك دول أوروبية بدأت في الاهتمام بكرة القدم للمكفوفين مثل ألمانيا التي تنظم حاليا دوريا كاملا للمكفوفين موازيا للدوري الألماني المعروف، وهناك أندية شهيرة بدأت في الاهتمام باللعبة مثل دورتموند وشالكه وهامبورج".
وكانت دول قليلة مثل ألمانيا وإسبانيا والبرازيل أقامت بطولات وطنية خاصة بكرة القدم للمكفوفين، وسرعان ما بدأت بلدان أخرى تنظم دوريات مهمة.. والطريف أن البرازيل تفوقت في اللعبة بعدما أبهرت العالم كله في كرة القدم التقليدية، وبات منتخب السامبا للمكفوفين بطل العالم حاليا.
وفي عام 2008 انطلقت أول بطولة دوري كبرى للمكفوفين في ألمانيا بمشاركة 8 فرق، وكان الهدف منها دمج تلك الفئة في المجتمع وإتاحة الفرصة لها لممارسة الرياضة.. وفي 29 مارس من العام ذاته بدأت المغامرة الكبرى بمشاركة أندية عريقة مثل دورتموند وشوتجارت وماينز في المسابقة برعاية نجم ألمانيا الأسبق أوفي زيلر.
وطالب أبوالنصر بضرورة إبرام بروتوكول تعاون بين المؤسسات الدولية الكبرى مثل الفيفا واللجنة البارالمبية الدولية لتشجيع الدول والاتحادات الأهلية على تكوين فرق لكرة القدم للمكفوفين مثلما هو الحال في كرة القدم النسائية، مطالبا بنقل التجربة الألمانية للوطن العربي.
أما اللاعب شريف أحمد السيد، الحاصل على ليسانس آداب من إحدى الجامعات المصرية، فيؤكد أن المكفوفين أصبحوا يتعلقون بكرة القدم يوما بعد آخر، وفي حالة رعاية أندية كبرى لهم فسوف تنال اللعبة شعبية طاغية في أوساط تلك الفئة.
لاعب آخر اسمه محمد، معروف عنه أنه لاعب ثائر بطبعه، أبدى غضبه من أحوال أصحاب الهمم والمكفوفين في مصر، وقال: "نحن مهمشون في كل شيء، اتركونا على الأقل نلعب كرة القدم، فلسنا أقل من البلدان التي تتيح الفرصة للكفيف لممارسة الكرة".
أحلام كبيرة
هناك العديد من اللاعبين مارسوا الكرة قبل فقدان النظر، ومن هؤلاء شريف بدوي الحاصل على ليسانس الآداب قسم تاريخ، والذي فقد نظره تدريجيا، لكنه تمسك بالأمل وأصر على النجاح بفضل عشقه لكرة القدم، حيث يقول: "أمتلك قدرة كبيرة على التحدي بفضل ممارستى لكرة القدم، فلولاها لفقدت حبي للحياة.. أنا كفيف لكني أصنع المستحيل بالإرادة، وأحقق طموحاتي مع الكرة، عشقي منذ الصغر".
أما وائل عصام عبدالرحمن، الذي يلعب في مركز المهاجم ويعشق هز الشباك، فيشير إلى أنه ينسى كل متاعب الحياة عندما يسجل هدفا، ويقول: "هناك من تهكموا على ممارستي للكرة، لكن منهم من انبهر بمهاراتي عند مشاهدتي داخل الملعب".. وهو نفس ما أشار إليه زميله "ميدو" الذى يلعب بقدمه اليسرى، مؤكدا أن الكرة بالنسبة له أكثر من مجرد لعبة.. فهي حياة.
أمسكنا بالكرة التي يتصارع عليها المكفوفون فوجدناها قريبة للغاية من الكرة العادية، وإن كانت أثقل من حيث الوزن (600 جرام تقريبا مقابل 450 جراما للعادية)، بسبب أنها تحمل بعض الأجراس لإحداث الصوت، وعلمنا أن مؤسس الفريق استورد من إنجلترا عدة كرات يبلغ سعر الواحدة منها نحو 400 جنيه مصري (25.5 دولار).
كانت للمشرفين على أول فريق كرة قدم للمكفوفين أحلام عريضة لنشر تلك اللعبة وإعداد مدربين وحكام قادرون على قيادة تلك المنظومة الجديدة مستقبلا، وهو ما جعل علي أبوالنصر مؤسس الفريق يتفاوض رسميا مع توني لاركن، أشهر مدرب للعبة في العالم، والذي وافق على عقد دورة تدريبية موسعة للمدربين في مصر.
لكن لاركن اعتذر عن عدم الحضور للقاهرة بعدها بسبب فيروس كورونا، وإن كان عرض فيما بعد استضافة الفريق في إنجلترا وتحمله كل مصاريف إقامته، وتواصل مع بعض الشركات المهتمة بصناعة الأدوات اللازمة للعبة لإرسال بعض المعونات للفريق المصري.
وعلم علي أبوالنصر من لاركن أن الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم يدعم منتخب المكفوفين ببلاده بمليون جنيه إسترلينى سنويا، وهو ما تمنى أن تسير على نهجه الاتحادات العربية من أجل دعم تلك اللعبة وإتاحة الفرصة لتلك الفئة لممارسة حقها في الاستمتاع بتلك الهواية.
الأهلي والزمالك.. والمسؤولية الاجتماعية
كأغلب محبي الكرة في مصر يتعلق المكفوفون بفريقي الأهلي والزمالك، اللذين يمتلكان شعبية طاغية، وهو ما دعا ياسر عبيد نائب رئيس اتحاد رياضات المكفوفين بمصر للتساؤل باندهاش شديد: "لماذا لا تؤدي الأندية الكبيرة مثل الأهلي والزمالك دورها الاجتماعي والإنساني وتساعد على نشر لعبة كرة القدم للمكفوفين؟".
وأكد عبيد أن تلك الأندية الوطنية لا بد أن تلعب دورا اجتماعيا وإنسانيا في هذا الصدد، مشيرا إلى أن ذلك يدخل في إطار واجباتها تجاه محبيها، وأن دورها لا يتوقف عند إحراز البطولات فقط.
يقول خالد محمود، الطالب بإحدى مدارس المكفوفين: "أحلم بأن أكون لاعب كرة مشهورا، فما الغريب في ذلك؟ كنت أتمنى ممارسة كرة القدم التي أسمع عنها، ووجدت هذه الفرصة مع كرة المكفوفين لأنني لا أحب كرة الجرس البعيدة تماما عن الكرة المعروفة عند كل الناس".
وأضاف خالد موجها سؤاله إلينا: "لقد شاهدتمونا بأنفسكم اليوم، ورأيتموني وأنا ألعب الكرة وأسجل الأهداف، فهل شعرتم بأنني لا أرى الكرة؟".
هذا السؤال لم نجد أمامه سوى إظهار ابتسامة إبهار وإعجاب، حيث إن خالد أحرز بالفعل أهدافا جميلة لا تختلف عن أهداف أمهر اللاعبين المبصرين، ليعلق على ذلك بعدها بالقول: "أنا أعشق الكرة بجنون، وأرى أن هناك من يحاربنا ولا يريد لنا أن نلعب وننجح، وهو ما نرفضه وسوف نكسب هذا التحدي".
وواصل خالد المشهور بمهاراته الكبيرة: "أنتظر يوم التدريب بفارغ الصبر، وكل أسرتي تشجعني على ممارسة الكرة"، قبل أن يؤكد أنه يحاول التخلص من عيب كبير لديه يتمثل في احتفاظه بالكرة أملا في المراوغة وإحراز الأهداف، معلقا: "أحب أي لاعب موهوب مثل شيكابالا لأنني زملكاوي".
ويحلم خالد بارتداء الفانلة البيضاء قائلا: "أحلم بتمثيل الزمالك بشكل رسمي يوما ما، لذلك أتمنى أن يؤسس النادي فريقا خاصا بالمكفوفين قريبا"، وهو نفس ما أكد عليه زميلاه محمد ومحمود اللذان يشجعان الأهلي بجنون، حيث يحلمان بخوض التجربة داخل جدران القلعة الحمراء.
ربما أصبح من الضروري أن تمارس الأندية الكبرى في الوطن العربي جزءا من دورها الاجتماعي في مجال كرة القدم للمكفوفين، وبكل تأكيد سيلقى قرار تشكيل فريق مصري في تلك اللعبة صدى واسعا في كل أنحاء العالم.
ويتخطى ذلك الحلم كل الحدود، فلماذا لا يشهد المستقبل تنفيذ فكرة تكوين فرق للمكفوفين في كل الأندية العربية والأفريقية الكبرى، وتأسيس بطولة دولية تقام بالقاهرة أو دبي أو الرياض أو غيرها من المدن العربية كل عام بين أعرق وأشهر الفرق؟.. وربما يتطور الأمر ليشمل أندية عالمية كبرى مثل ريال مدريد وبرشلونة ويوفنتوس وميلان وليفربول ومانشستر سيتي وباريس سان جيرمان وغيرها.
وعلمت "العين الرياضية" أن اتصالات مكثفة دارت خلال الفترة الأخيرة بين عدة أطراف لتحقيق هذا الحلم.. فمشاركة أندية عربية كبرى مثل الأهلي والزمالك في بطولات المكفوفين ستكون سببا في أن تحظى تلك اللعبة باهتمام هائل لم يتحقق لها من قبل.
العشق الممنوع
هل أصبح الحلم ممنوعا في أندية القمة؟.. سؤال طرحه محمد عبدالحميد الشهير بـ"بياضة"، لاعب منتخب مصر للمكفوفين، والذي أبدى اندهاشه من عدم الاهتمام بهم في الرياضة المصرية خاصة في كرة القدم التي تحظى بشعبية طاغية في أوساطهم.
يقول "بياضة": "دائما ما نتحدث عن هذا الحلم.. ونسأل باستمرار: هل أصبح هذا العشق ممنوعا علينا في الأندية الكبيرة؟.. فلماذا لا تهتم أندية مثل الأهلي والزمالك بمصر والعين والجزيرة بالإمارات والهلال والنصر بالسعودية ووفاق سطيف وشبيبة القبائل بالجزائر والوداد والرجاء بالمغرب والترجي والصفاقسي بتونس بالمكفوفين وتحترم حبهم لكرة القدم؟".
وطالب بياضة تلك الأندية الكبرى بممارسة دورها المجتمعي لتشجيع المكفوفين العاشقين لها على ممارسة كرة القدم على سبيل الهواية دون أي تكلفة مالية تذكر، مشيرا إلى أن اهتمام الأندية الشهيرة في الوطن العربي بالمكفوفين سوف يحدث نقلة نوعية كبرى لرياضاتهم بشكل عام، متمنيا أن تفتح الأندية العربية أذرعها للمكفوفين قريبا.
كما طالب لاعب منتخب مصر للمكفوفين اللجان البارالمبية في الوطن العربي بالتعاون مع اتحاد الكرة في كل دولة بتنظيم فعاليات سنوية بمشاركة نجوم الكرة، مع الدعوة لتنظيم بطولة عربية للأندية في أي مدينة عربية، معتبرا ذلك بمثابة الحلم القادم.
الأهلي المصري يبدأ التنفيذ
محمود الخطيب، رئيس النادي الأهلي المصري الحالي وأحد أهم نجوم الكرة العربية على مدار التاريخ، كان من أكثر الداعمين للمكفوفين، وطالما استقبلهم وشجعهم في مناسبات مختلفة.
الخطيب قال لـ"العين الرياضية": "لقد لعبنا كرة القدم لإسعاد الناس، وأعرف جيدا مدى تعلق أولادنا وإخوتنا وأحبائنا من المكفوفين بالساحرة المستديرة.. منهم من لعبها في الصغر وقبل فقدان البصر، ومنهم من سمع عنها وتعلق بها دون أن يراها".
وأضاف: "تظل كرة القدم وسيلة للتواصل بين الناس، ومفتاحا للتقارب وليس للفراق.. ولا بد أن تشهد ملاعبنا دوما الأخلاق والقيم والروح الرياضية واللعب النظيف، كم كانت سعادتى بالغة عندما شاركت في تكريم منتخب مصر لكرة الجرس للمكفوفين منذ عدة سنوات.. وأتوقف كثيرا أمام تعليقاتهم الجميلة ومتابعتهم الدقيقة لأحداث وبطولات الكرة في مصر وخارجها".
المكفوفون طالبوا الخطيب بتحقيق حلمهم بتكوين فريق لهم داخل الأهلي يشارك في البطولات الدولية باسم نادي القرن في أفريقيا، خاصة أن النادي أعلن عن تدشين مؤسسة للتنمية المجتمعية اختارت عبارة "الأهلي للجميع" شعارا لها.
محمد جمال الجارحي، عضو مجلس إدارة الأهلي الأمين العام لمؤسسة النادي المجتمعية، أبدى إعجابه بفكرة اهتمام الأندية الكبرى بكرة القدم للمكفوفين، مشيرا إلى أن من أدوار المؤسسة الاهتمام بأصحاب الهمم، وأنه من الوارد إقامة بطولات ودية في تلك اللعبة خاصة أن النادي يضم العديد من الأعضاء من متحدي الإعاقة البصرية.
الحلم العربي
محمد غريب الحوسني، عضو مجلس إدارة نادي عجمان الإماراتي لأصحاب الهمم، يؤكد أن اهتمام الأندية الكبرى بالإمارات باللاعبين المكفوفين يعد حلما كبيرا، لأن الأندية المهتمة بتلك الفئة حاليا هي أندية ذوي الهمم فقط.
وأشاد الحوسني بفكرة تبني الأندية الكبرى في الوطن العربي فئة المكفوفين في ملاعب كرة القدم، مؤكدا أن ذلك سيكون أمرا رائعا ويدعو لمزيد من الحلم والأمل.
ويعد الحوسني هو قائد منتخب الإمارات لكرة الجرس، ويلعب معه أكثر من 20 مواطنا من المكفوفين، ويخوض بهم بطولات كبرى على مستوى مجلس التعاون الخليجي والمنطقة العربية وغرب آسيا، ويطمح هو وأصدقاؤه لنشر كرة القدم للمكفوفين بالإمارات بشكل كبير، ويرون أن اهتمام الأندية الكبرى سوف يحدث طفرة كبيرة للعبة.
عبدالكريم قاسم، لاعب منتخب العراق للمكفوفين، طالب بضرورة إبرام عقود للاعبي كرة القدم من المكفوفين، مشيرا إلى أنه من الضروري أن تهتم الأندية الكبرى بكل دولة عربية بالمكفوفين في إطار الدور المجتمعي لها، قائلا "ستكون فرصة عظيمة لنا".
أما رائد النصار، الشهير بأبونواف، عضو الاتحاد السعودي للمكفوفين، فيقول "كانت لدينا خطط كبيرة لتطوير نشاط كرة القدم للمكفوفين في المملكة خلال الفترة الأخيرة، لكن أزمة كورونا كان لها تأثير سلبي واضح"، مضيفا: "نستعد لتنظيم العديد من البطولات في لعبة كرة الجرس، ونتمنى أن نهتم أكثر بكرة القدم للمكفوفين".
وحول اهتمام الأندية الكبرى بنشاط المكفوفين قال: "للأسف الأندية الكبرى لا تهتم، والأمر يقتصر على الأندية الخاصة بأصحاب الهمم.. اهتمام الأندية الشهيرة في السعودية مثل الهلال والنصر والاتحاد والأهلي وغيرها بألعاب المكفوفين حلم كبير أتمنى أن أراه على أرض الواقع".
ويشير رائد النصار إلى أن تلك الأندية تهتم بكرة القدم بشكل هائل، وأنها في إطار دورها المجتمعي من الضروري أن تضع بصمة كبيرة في نشاط المكفوفين في اللعبة.
أول مباراة في سوريا
واحتفالا باليوم العالمي لأصحاب الهمم في ديسمبر/ كانون الأول 2021، أقامت الجمعية العامة للمكفوفين ومنظمة شفق بطولة في كرة القدم للمكفوفين للمرة الأولى في الشمال السوري، تحت شعار "بالهمم نعلو القمم"، ولعب فريقان من أصحاب الهمم الذين يعانون بصريا المباراة أمام جمهور كبير شجعهما بحماس في مدينة إدلب في تحد واضح لكل الظروف المحيطة بالبلاد.
تواصلنا مع إبراهيم، أحد المشاركين بالمباراة وعضو مجلس إدارة جمعية رعاية المكفوفين، فقال إن اللقاء كان رائعا من كل الجوانب، مضيفا: "كم كنت سعيدا وأنا أحقق أحد أحلامي بلعب كرة القدم أمام جمع كبير وسط فرحة غامرة.. لأول مرة أشعر بتلك السعادة".
وواصل إبراهيم: "أنا من المكفوفين وعمري 26 سنة ومتزوج، وقد فقدت بصري وعمري 7 سنوات، لكني حافظت على عشقي لكرة القدم"، مضيفا: "تأثرت كثيرا بالساحرة المستديرة، ومؤخرا حرصنا على زيادة التدريبات لنظهر بشكل طيب أمام الجماهير.. وبالإرادة والعزيمة وصلنا لمستوى فني مميز وحققنا النجاح المطلوب".
وطالب إبراهيم بمزيد من الاهتمام عربيا بكرة القدم للمكفوفين، قائلا: "في سوريا نحلم باهتمام الأندية الكروية الكبرى باللعبة وكذلك الأندية في الدول المجاورة.. هذا حلم كبير نتمنى أن يتحقق قريبا".
وفي سلطنة عمان، التقينا عدنان العوايدي، أحد المهتمين برياضة المكفوفين والذي شارك في تكوين فريق لكرة القدم، وأوضح أن تلك اللعبة يمارسها العديد من المكفوفين بالسلطنة ولها شعبيتها الواسعة، مطالبا بمزيد من الاهتمام من جانب الأندية الكبرى.
أما منصور الطوقي، رئيس اللجنة البارالمبية العمانية، فقد أشار إلى أن سلطنة عمان والمغرب والجزائر ومصر من أكثر الدول اهتماما بكرة القدم للمكفوفين، متمنيا أن تشهد اللعبة انتشارا كبيرا في الوطن العربي خلال السنوات القادمة.
الطوقي قال لـ"العين الرياضية": "نشر اللعبة عربيا واهتمام الأندية الكبرى الشهيرة بها فكرة رائعة، ومن الضروري أن تكون ضمن برامج التوعية والترويج والدور المجتمعي لكل ناد، كما أنه من الضروري اهتمام الشركات الكبرى بتلك اللعبة ورعايتها".
وأضاف: "اهتمام أي ناد كبير في الوطن العربي بكرة القدم للمكفوفين سوف يكون سببا في تسليط الضوء عليها، ومن الضروري أن تقوم الاتحادات الأهلية بمسؤوليتها المجتمعية وترعى فرق كرة القدم للمكفوفين، وكذلك هناك دور على نجوم الكرة في كل بلد عربي".
ووجه الطوقي رسالة من خلال "العين الرياضية": "أطالب باهتمام أكبر من كل أطراف المنظومة الكروية في الوطن العربي بكرة القدم للمكفوفين.. فهذه فرصة كبيرة لإسعاد تلك الفئة وإدخال مزيد من السعادة إلى قلوبهم".
أما السوداني محمد عمر فقد سافر لليابان للدراسة فأصبح لاعبا لكرة القدم للمكفوفين، ويقول عن ذلك: "عندما كنت صغيرا كنت مبصرا وألعب الكرة بشكل رائع، وبالطبع توقفت عن ممارستها عندما فقدت بصري، وعند سفري لليابان وجدت فرصة للعودة لممارسة الهواية المحببة عبر كرة القدم للمكفوفين، وبدأنا في إدخال اللعبة للسودان".
تفوق مغربي
في الدار البيضاء تأسس أول منتخب مغربي للمكفوفين وضعاف البصر على يد الجامعة الملكية المغربية للمكفوفين، والذي حقق أول بطولة لكأس أفريقيا سنة 2013، ليتأهل لكأس العالم باليابان، بعدها حقق كأس أفريقيا للمرة الثانية سنة 2015 بالكاميرون، ليتأهل إلى الألعاب البارالمبية الصيفية 2016 بريو دي جانيرو.
وسيطر منتخب المغرب بعدها على بطولة أفريقيا ووصل به المطاف لتحقيقها 4 مرات متتالية (منذ 2013 إلى 2019)، وشارك في بارالمبياد طوكيو 2020، حيث توج بالميدالية البرونزية عقب فوزه الكبير على الصين برباعية نظيفة سجلها زهير سنيسلة أحد أبرز لاعبي العالم، ليتوج هدافا للبطولة برصيد 8 أهداف.
سنيسلة، اللاعب المغربي الأشهر في كرة القدم للمكفوفين، والمتوج مع مُنتخب بلاده بالميدالية البرونزية ضمن مُنافسات كرة القدم الخماسية للمكفوفين بأولمبياد طوكيو 2020، أبدى سعادته باهتمام "العين الرياضية" بملف كرة القدم للمكفوفين عربيا، وأكد أنه يطمح لانتشار اللعبة في كل أرجاء الوطن العربي، وأن تحظى باهتمام الأندية الكبرى.
وُلد زهير في 25 يناير/ كانون الثاني 1999، وحين كان في السابعة من عمره فقد بصره إثر ضربة تلقّاها من أحد الأطفال الذين كان يلعب معهم، ليبدأ في ممارسة كرة القدم للمكفوفين في سن العاشرة، وينضم في عام 2014 للمنتخب المغربي للمكفوفين، ويشارك رفقته في عدة بطولات منها بطولة أفريقيا، وبطولة العالم، والأولمبياد.
وأوضح زهير المعاناة التي واجهها منتخب المغرب من أجل الوصول لما وصل إليه بالقول: "واجهنا ظروفا صعبة حتى أصبح منتخب المغرب لكرة القدم للمكفوفين أحد أهم الفرق في العالم كله.. ونطمح للمزيد".
ويضيف: "أحفظ أبعاد الملعب كأنني أراه، وأداعب الكرة مثل الأسوياء تماما.. لقد فقدت البصر في الطفولة، ومن وقتها وأنا متعلق بكرة القدم للمكفوفين حتى أصبحت واحدا من أهم لاعبي العالم"، مبديا سعادته البالغة بفكرة اهتمام الأندية الكبرى عربيا بلعبة كرة القدم للمكفوفين، واصفا ذلك بالحلم الكبير.
مصطفى، أحد المكفوفين العاشقين للكرة في مصر، اقترح إقامة مباراة كبرى في إحدى المدن العربية بين النجوم العرب، على أن يخوضوا المباراة معصوبي الأعين بصحبة عدد من اللاعبين المكفوفين، في رسالة إنسانية لدعم ممارسة تلك الفئة لكرة القدم.
وربما تخطف هذه المباراة كل الأنظار إذا ما شارك فيها نجوم بحجم محمود الخطيب وحسن شحاتة (مصر)، وسعيد العويران وياسر القحطاني (السعودية)، وإسماعيل مطر وعموري (الإمارات)، ورابح ماجر (الجزائر) وطارق دياب (تونس) وعزيز بودربالة (المغرب) وغيرهم، وربما تتم الاستعانة ببعض نجوم العالم لدعم ممارسة المكفوفين للعبة.
aXA6IDE4LjIyNC41Ni4xMjcg
جزيرة ام اند امز