بعض الناس أشبه ما يكونون بالأوراق التي تغطي الشجرة لموسم، لكنها لا تلبث أن تسقط أو تحملها الرياح، لا يمكنك الاعتماد عليها، لأنها ضعيفة جداً ولا تتعلق إلا لفائدتها، هذا قَدَرُها فلا تَلُمْها عليه، وهناك آخرون كالأغصان أشد تماسكاً عن الأوراق.
بعض الناس أشبه ما يكونون بالأوراق التي تغطي الشجرة لموسم، لكنها لا تلبث أن تسقط أو تحملها الرياح، لا يمكنك الاعتماد عليها، لأنها ضعيفة جداً ولا تتعلق إلا لفائدتها، هذا قَدَرُها فلا تَلُمْها عليه، وهناك آخرون كالأغصان أشد تماسكاً عن الأوراق.
وقد تستمر فترة أطول، لكنها قد تنكسر إن تعرضت لضغوط أكبر ورياح أشد وتختفي عندما تصبح الأمور قاسية، أيضاً لا يمكن الاعتماد عليها كثيراً ما دامت متوقَّعة الزوال بأي لحظة، هذا قدرها فلا تعاتبها لرحيلها، وهناك قِلّة كالجذور لا تراها العيون، ولا تنشد الأضواء، هي من لا تفارق الشجرة أبداً وتمدها بالحياة وتساعدها على الثبات عندما تشتد العواصف.
هكذا بدأ بهذه القصة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، كلمته الثرية في ختام ملتقى «أجيال المستقبل»، بحضور أعداد غفيرة من شباب الوطن وشابّاته، لم تكن الرسالة خفية ولا تحتاج لكثير تفكير: اعْرفْ نفسك وماذا تُمثّل فعلاً لهذه الشجرة، لهذا الوطن، هل ترضى أن تكون مجرّد ورقة عابرة أو تقبل أن تكون غُصناً قابلاً للاختفاء أم أنت فعلاً أحد تلك الجذور، التي تستطيع أن تُبقي تلك الشجرة حيّة ثابتة.
الجذور أتى ذكر بعضهم تصريحاً وبعضهم تلميحاً في ثنايا كلمة «بو خالد»، حفظه الله تعالى، أولهم زايد الخير وإخوانه المؤسسين رحمهم الله، فهم من عانى وقاسى صنوفاً من المصاعب الله وحده بها عليم، من أجل أن يقوم هذا الوطن وأن يُشرِق نور الخير والعدالة والأمن والوحدة والتعاضد على هذه الصحاري الجرداء وتلك القلوب المتفرّقة.
فوقف بهم الوطن واشتد عوده وأثمر كأجمل ما يكون الثمر، كان ديدنهم العطاء دون انتظار مقابل، وهمّهم انتشال أحلام الناس وتحقيقها دون طمع في شهرة أو رغبة في ظهور، حضروا وثبتوا عندما كان الفقر والخوف والتمزّق هو ما يعمّ الأنحاء، ورحلوا بهدوء عندما وطّدوا للخير جبالاً، وأرسوا للأمن سياجاً، ونسجوا للتوحّد ثياباً تستعصي على الأيام ودوراتها.
الجذور أيضاً هم شهداؤنا الأبرار، الذين ضحّوا بأعظم وأغلى ما يملكون، وسالت دماؤهم الطاهرة لتبث حياة جديدة في أوصال شجرة الوطن الغالية، هم من ثَبَت عندما جُنّ جنون عواصف الفتن، ووقفوا عندما خاف الخوف مما يلاقون، وأقدموا عندما أحجمت الشجاعة أن تذهب حيث ذهبوا، وكلما ارتفعت روح أحدهم ارتفعت معها راية العز أكثر، فأجزلوا العطاء وأحسنوا الصنيع وأوفوا بعهدهم بـ«أرواحهم».
الجذور أيضاً أمهات الشهداء ومربيّات «مخاوين شمّا» والتي ضربت إحداهن خير مثال في تلك القصة، التي رواها سموّه عندما شعر بمرارة ألم الفقد لديها وحاول تطييب خاطرها فردّت عليه بأنها تعلم بأنّه «لو ما تَم هذا الشيء هناك بيصير هنيه»، أي أنه لو لم يذهب لدفع الشر هناك بعيداً لكان هذا الشر وما يحمل من موت وخراب وترويع قد وصل هنا إلى ديارنا، هذه هي الجذور التي تُضحّي بفلذات أكبادها من أجل شجرة الوطن وليس من شيء أغلى لدى الأم من «ضناها».
الجذور التي أرادها سموّه أيضاً أن تعي دورها كانوا حضور ذلك الملتقى من شباب الوطن وشابّاته، في أغلب حديثه كنّا نشعر بين ثنايا نبرته الدافئة وتكراره الدائم لكلمة «يا عيالي» بصوت المحب وروح الأب المشفق استثارة لهم، ليتحملوا تلك المسؤولية العظيمة، مسؤولية أن يكونوا عماد هذه البلاد وسندها وحصنها، الذي لن يخذلها، مسؤولية أن يكونوا جديرين بما وصفهم به بأنّهم «جيل مُهمّة»، مهمة الحفاظ على الوطن، مهمة حماية مكتسباته، مهمة إبقاء رايته خفاقة في سماء العز والعدالة والمدنية، مهمة استكمال رحلة الإنجازات ومسيرة التنمية، مهمة ألا يذهب تعب الآباء المؤسسين وكفاح السنين الطويلة هدراً.
لم يكن يُحمّلهم مالا يطيقون، بل كانت نظرة القائد، الذي تعب كثيراً على هذا الجيل وجعلته يستهل حديثه بقوله:« يسعدني أن أرى هذه الوجوه النيّرة والطموحة التي نراهن عليها بمسؤولية بلد وأمة وجيل قادم»، لم يضع العبء عليهم هكذا، لم يتركهم لمواجهة تحديات المستقبل دون سند.
فهو أحد هذه الجذور العظيمة، التي لا تمر بها لحظة إلا وهي تعمل دون توقف لحماية الشجرة وترسيخ وجودها وإبقائها ثابتة مهما اشتدت العواصف وتأزمت الظروف، كان صريحاً وهو يؤكد أن المكوّن الرئيس لاقتصادنا وهو البترول سينتهي في زمنهم لا زمن الجيل الحالي، وأنّ همّه الأول أن يُؤمِّن الأمور لهم من اليوم، ليستلموا الراية وهم في خير وعزّة.
أعاد التذكير بالحقائق لتجلية الأمور وبيان سلامة المنهج وصِحّة المسار وكفاءة العمل من ناحية ولرفع سقف التوقعات من الجيل القادم تجاه هذا الوطن وهو يقول: «عندي قناعة أن بلادنا الإمارات مثل النور اللي يضيء الأرض المظلمة، هي قدوة حسنة للآخرين مع احترامي لكل جيراننا، أنا لا أُزايد ولا أحاول رفع الهمم هنا.
أنا أذكر حقائق وأرقاماً والأرقام عمرها ما تنافق»، وضرب مثالاً بنهضة اليابان للدلالة على أهمية تعاهد جذور الشجرة وضرورة تعاقب الأجيال بنفس درجة البذل والعمل ونكران الذات لإبقاء الشجرة حيّة مثمرة، فالنجاحات العظيمة لا تأتي صُدفة ولا تحدث من أجل جهد جيل واحد فقط، وابتسم وهو يقول تأكيداً لذلك: «ترى اللي صار عندهم مش من باب: طاح الوَسْمي وظَهَر العشب».
في حديثه كرّر كثيراً:« ثروتنا مش الثلاثة مليون برميل نفط، ثروتنا وأملنا ورهاننا أنتم»، هو يعلم أنهم أهل لأن يكونوا جذوراً جديرة بتلك الشجرة، عندما يطيب الـمَنْبِت وتحسن التربية لا يمكن أن يكون النتاج إلا كما تأمله الأنفس، هو يعلم أن الراية بأمان، لأنه أحسن تنشئة هذا الجيل، ويعلم تمام العلم بأنهم على قدر الظن بهم، المهم الأوحد ألا تسقط الراية، ألا تسقط الراية، ألا تسقط الراية.
*نقلاً عن " البيان "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة