قررت المملكة المتحدة احتجاز المهاجرين غير الشرعيين إليها في معسكرات بقارة أفريقيا.
اتفقت مع رواندا على استقبال كل من يطأ أرض المملكة بشكل غير قانوني، وتجميعهم في معسكرات تبعد نحو أربعة آلاف ميل عن الحدود البريطانية، إلى حين البت في طلبات لجوئهم أو إقامتهم من السلطات المختصة.
ما تنوي حكومة المحافظين فعله يعرضها لانتقادات داخلية كثيرة جدا. كما أدانته منظمات حقوقية دولية وأممية. جميعهم يشككون في جدوى الخطة وفعاليتها، ولكن وزيرة الداخلية، بريتي باتيل، تقول إن الخطة "تشكل رادعا لمهربي البشر من جهة، والحالمين ببلوغ أرض المملكة المتحدة بشكل غير قانوني، من جهة أخرى".
الدولة الأوروبية الوحيدة، التي رحبت بقرار بريطانيا حتى الآن هي الدنمارك، وقالت إنها تتطلع للاقتداء بـ"المثال البريطاني" من أجل الوصول إلى خطتها المتمثلة في "صفر لاجئين".
ولا يخفى على أحد نفور اليمين الدنماركي من المهاجرين، ورغبة حكومة كوبنهاجن في إعادة جميع اللاجئين إلى بلادهم أيا كان حالها.
المشكلة ليست في الدنمارك، وإنما في "المثال البريطاني"، الذي قد تتبعه دول أوروبية عدة في السنوات القليلة المقبلة.. فأحزاب اليمين تشترك في رفض اللاجئين والمهاجرين، والتخلص من "الأجانب" يتصدر عناوين الحملات الانتخابية لهذه الأحزاب، سواء كانت تسعى وراء رئاسة الدول، أو الفوز بمقاعد البلديات.
مرشحة اليمين الفرنسي للرئاسة مارين لوبان تُجاهر برفضها المهاجرين وتتوعد بالتضييق عليهم وترحيلهم إنْ وصلت إلى قصر الإليزيه.
صحيح أن استطلاعات الرأي تتوقع لها الخسارة مجددا أمام الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أنها وحدها من بين جميع المرشحين، استطاعت الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات في 2017 و2022، وبالتالي قد تفوز في 2027.
الأصوات المعارضة للمهاجرين تُسمع في غالبية الدول الأوروبية والغربية. وما قدمته بريطانيا لرواندا يقدر عليه كثيرون. كما أن رواندا ليست الدولة الوحيدة في القارة السمراء أو العالم عموما، التي لا تجد ضَيرا من "احتجاز" مئات أو حتى آلاف من اللاجئين، مقابل دعم مالي أو سياسي أو أي نوع آخر.
إن تعميم المثال البريطاني في التعامل مع ملف المهاجرين، سيخلق أزمة لملايين اللاجئين الفارّين من بلدانهم هربا من الموت وتوقا إلى فرصة حياة جديدة، فالغالبية الساحقة من هؤلاء يصلون إلى بلدان "الأحلام" بطريقة غير شرعية، وإنْ أصبح ذلك سببا للترحيل والمحاسبة القانونية، فستصبح كلفة الهرب من الموت أكبر من كلفة مواجهته في بلدان الصراعات والحروب، والمجاعات والأوبئة وغيرها.
ولا ينتهي الأمر عند اللاجئين والمهاجرين، وإنما تمتد تداعياته إلى الدول التي تحتجزهم وجيرانها، ليصبح أمن المنطقة والقارة ككل في خطر.. فالدول المرهقة اقتصاديا مثل رواندا لن تكون بديلا عن "الجنان" الأوروبية، والمُهاجر القابع في معسكرات الاحتجاز لن يصبر كثيرا في انتظار حصوله على حق اللجوء في بريطانيا أو أي دولة غربية.. سيحاول الفرار وتكرار تجربة اللجوء مرة تلو الأخرى، وربما يحاول أيضا التسلل إلى أي دولة أفريقية أو آسيوية للعمل والعيش بدلا من الانتظار.
يراهن البريطانيون على أن المهاجرين واللاجئين لن يبادروا بالقدوم إلى بلادهم بعد اليوم، لأنهم سيخشون ترحيلهم إلى رواندا.
يبدو الأمر من الناحية النظرية صحيحا، ولكن ماذا عن خيار العيش غير القانوني في المملكة المتحدة؟ ماذا ستفعل الحكومة إن قرر المهاجرون غير الشرعيين العيش لسنوات دون أوراق ثبوتية في بريطانيا، والعمل فيما يسمى هنا بـ"السوق السوداء"، انتظارا لفرصة ما لتصويب أوضاعهم، أو تغير القوانين مستقبلا لصالح تثبيت عيشهم بصورة رسمية ودون عواقب؟
إنْ وجد المهاجرون أنفسهم أمام المفاضلة بين الترحيل إلى معسكرات في رواندا أو العيش بصورة غير قانونية في بريطانيا، فالخيار الثاني ربما يكون أقرب.. خاصة أن كثيراً منهم فروا من معسكرات ومراكز للاجئين في دول أفضل حالاً بكثير من رواندا، ويعرفون تماما ما معنى انتظار أوراق اللجوء لسنوات في خيام يعبث بها الحرُّ والأمطار والثلوج إلى حدود يبقى فيها الموت يحوم حولهم بكل لحظة.
لن يتأثر الأمن البريطاني فقط بالمهاجرين المختبئين بعيدا عن أعين الشرطة، والخائفين من الترحيل إلى رواندا.. الاقتصاد الوطني أيضا سيتأثر بشدة، وسيكلف الخزينة مبالغ كبيرة.. ناهيك بحالة الاستنفار الدائم، والأموال التي ستنفقها الحكومة لتنفيذ قرار يعارضه كثيرون في البرلمان والمنظمات الحقوقية والإنسانية.
ربما تكون حكومة بوريس جونسون قد أمعنت التفكير في هذه التحديات وخططت لمواجهتها، ولكن الرهان على دقة حساباتها ليس مضموناً.. فهي لم تبلغ أهدافها كاملة في ملفات عديدة، أبرزها الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي يعد سببا بارزا من أسباب انفجار الهجرة غير الشرعية إلى المملكة المتحدة عبر بحر المانش.
ثمة مشكلة أخرى تحول دون الثقة بصواب المثال البريطاني في التعامل مع أزمة الهجرة غير الشرعية، ألا وهي مصداقية الحكومة في الالتزام بالقوانين.. فرئيس الوزراء نفسه يُحاكَم برلمانيا على مخالفته قواعد الإغلاق، التي فرضتها الحكومة ذاتها لمواجهة وباء كورونا العام الماضي.. أصبح جونسون أول رئيس حكومة في تاريخ البلاد يغرَّم لمخالفته القوانين، ومن يدري، ربما يصبح أول رئيس وزراء لبريطانيا يواجه تهم انتهاك حقوق الإنسان بسبب خطط "نفي" المهاجرين واللاجئين إلى ما وراء البحار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة