ما الذي جرى ويجري في السويد خلال الأيام الأخيرة؟
علامة الاستفهام موصولة بأصوات التطرف والكراهية، والتي ظن المرء أن أوروبا العلمانية التنويرية عن بَكرة أبيها قد خلت منها، مرة وإلى الأبد، غير أن حوادث متفرقة في أنحاء القارة الجار الأقرب للعالم العربي، تكشف لنا أن هناك مستجدات لا تطمئن.
يتساءل المرء كيف للتطرف والتشدد، التعصب والتمذهب، أن يصيب واحدة من الدول الاسكندنافية، والتي تضمن الرفاهية لمواطنيها من المهد إلى اللحد؟
القصة باختصار غير مُخلٍ في طبعتها الحديثة، مردُّها إلى ما قام به المتشدد اليميني راسموسن بالودان، من إحراق لنسخة من المصحف في مدينة لينشوبينغ بجنوب السويد.
ولعل المؤلم والمُهين، لا للعالم الإسلامي فحسب، بل لكل من يحمل في صدره ضميرا صالحا، موصول بأن هذا الفعل المُشين قد جرى في ظل حماية الشرطة السويدية، فقد ذهب ذلك المتطرف إلى منطقة في المدينة السويدية، التي يقطن بها مسلمون، وأشعل النار في المصحف، دون أن يعير اهتماما للتنديدات الصادرة عن حشد يقدر عدده بمائتي فرد.
أن يُقدِم راديكالي أوروبي على فعلة نكراء كهذه من نفسه هذا أمر كبير، وأن يجري المشهد تحت سمع وبصر الشرطة السويدية فهذا أمر وإشكال أكبر، ذلك أنه يعود بنا إلى أزمة التفريق بين ما هو حرية رأي، وما هو ازدراء لإيمان ومعتقدات الآخر، والأول هو أمر نسبي قابل للقسمة والاختلاف وفلسفة المواءمات، فيما الثاني مطلق لا يقبل التفكيك أو الانتقاص من شأنه.
يُدهش المرء حين يدرك أن أجهزة الأمن السويدية كان لديها علم من كتاب بشأن إقدام "بالودان" على تعكير الأمن المجتمعي السويدي أول الأمر، والأوروبي تاليا، وهي تعرف مقدما أن الرجل الموتور يترأس حزب "سترام كورس" أو "الخط الصُّلب"، والذي لا يستنكف إظهار العداء للمهاجرين عامة، والمسلمين الشرق أوسطيين والشمال أفريقيين بنوع خاص، ومع ذلك وفرت له أجواء الحماية ليرتكب جريمته الأخلاقية.
عرف أهل السويد الأكلاف البالغة الضراوة، التي دفعتها القارة الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين جراء سيادة وهيمنة أيديولوجية الكراهية، ممثلة في النازية، ومن هنا يضحي التساؤل: "كيف تسمح لتيارات تمتلئ بغضا وحسدا أن تفشي الخصام عوضا عن الوئام في ربوع المجتمع السويدي، والذي عُرف بالتسامح وقبول الآخر منذ سبعينيات القرن المنصرم وحتى الساعة؟".
يُدهش المرء كذلك حين يدرك أن "بالودان" دنماركي الجنسية، وقد أدين قبل نحو عامين بنشر مقاطع فيديو معادية للإسلام على وسائل التواصل الاجتماعي التابعة لحزبه، وواجه 14 تهمة، منها العنصرية والتشهير والقيادة الخطرة.
عطفا على ذلك، فقد تم فصله من عمله كمحامٍ جنائي لمدة ثلاث سنوات، ولم يتمكن حزبه من دخول البرلمان الدنماركي في الانتخابات الوطنية عام 2019، إذ حصل على نسبة 1.8% من الأصوات، وهو أقل بقليل من عتبة 2% اللازمة لدخول البرلمان.
كارثة هذا المتطرف أنه يصر على أنه يدعم تقاليد الدنمارك في ممارسة حرية التعبير، لكن عن أي حرية تعبير يتحدث؟، وهل يمكن للدنمارك -أو السويد- أن تقبل سلوكا أصوليا يتهدد السلام المجتمعي إن جاء من طرف آخر، لا سيما إن كان صاحبه مسلما؟
تبدو التناقضات في الأجواء السويدية مثيرة للقلق، ذلك أن الفعل الاستفزاري للمسلمين السويديين يحدث وكأن الدولة، التي تدافع عن حقوق الإنسان وحرية الدين والضمير بأعلى صوت غائبة أو مغيبة لسبب أو آخر.
أحد أفضل وأعقل الأصوات السويدية، التي ارتفعت في مواجهة العار الأخير، صوت ميكائيل يوكسال، رئيس حزب الألوان المختلفة السويدي، ويعبر اسم حزبه عن تركيبته الاجتماعية، وأطيافه المتباينة، وتفهمه لمنطق التناغم رغم الاختلاف.
"ميكائيل" يرى في "بالودان" إنسانا عنصريا يستهدف المسلمين بنوع خاص، فيما يعبر عن استغرابه الشديد من دعوة الشرطة المسلمين إلى مشاهدة حرق كتابهم المقدس أمام أعينهم، ويقول: "أي نوع من خسوف العقل هذا؟".
هل يراهن "بالودان" وأتباعه على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وربما النفسية، للسويديين خاصة، وللأوروبيين عامة، ويتعلل بها في طريق كراهيته للمسلمين من مواطنيه؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك فعلا، لا سيما في ظل الضغوطات الاقتصادية، التي يعانيها قطاع كبير من السويديين، حيث يحاجج اليمينيون بأن المهاجرين، لا سيما المسلمين منهم، باتوا يقتطعون مساحات واسعة من الدعم، الذي وفَّر لأصحاب البلد الأصليين مستوى كبيرا من الرفاهية طوال التاريخ الحديث للسويد.
غير أن واقع الحال يخبر بأن تلك حجة واهية، ذلك أن المهاجرين، والذين يكاد يصل عددهم إلى 24% من سكان السويد، البالغ 10 ملايين نسمة، قوة عمل نافعة، وأدوات اقتصادية مفيدة للبلاد، وليس خصما منها.
في المشهد السويدي، بعد آخر يكاد يغيب عن أعين كثير من المحللين السياسيين، وهو أن السويديين يعيشون حالة من القلق الوجودي في الشهرين الأخيرين جراء النزاع الروسي-الأوكراني، ولأن السويد هي أقرب بقعة ورقعة جغرافية لروسيا، لذا بدا الخوف يسيطر عليهم، والأحاديث تدور الآن حول إنهاء السويد حيادها التاريخي لتطلب انضمامها لحلف الناتو، الأمر الذي ترفضه روسيا، ويمكن أن يكون له تبعات جسام.
هل نحن أمام تجربة كبت وإسقاط كما يقول علم النفس؟ كبت من عوامل اقتصادية ترتبط باضطرابات القارة العجوز اقتصاديا، ومخاوف من المجهول الذي يعده قيصر روسيا المعاصر، فلاديمير بوتين، للسويديين، ومن ثم إسقاط على المسلمين المهاجرين والمواطنين منذ عقود؟
المعروف أن السويد تبنّت منذ 2017 استراتيجية محلية لمكافحة الحركات اليمينية، غير أنه من الواضح أنها لا تزال تحتاج إلى مزيد من الجهود لتقويم ما هو مُعوَج.
ولما كانت الأشياء تتمايز من خلال الأضداد، فإنه يمكن للمرء أن يقارب بين تجارب تعايش واحترام للعقائد والأديان التوحيدية والوضعية في دولة مثل الإمارات، وبين ما يجري في السويد، وهو ما نأمل أن ينتهي في القريب العاجل.
الخلاصة: الحوار والجوار والتعايش الأخوي الإنساني، منظومة لها مستقبل.. أما الكراهية فلا تفيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة