من بين الغايات المرجوة للانتخابات البرلمانية اللبنانية المزمعة في مايو المقبل أن تكون محطة لتغيير النمط الذي طبع سيرها ونتائجها على مدار عقود من الزمن.
كذلك أن تتحول إلى معراج يأخذ لبنان واللبنانيين إلى ضفاف جديدة غير تلك التي اعتادوا الركون إليها تحت سطوة الطبقة السياسية والحزبية، التي هيمنت على المشهد اللبناني منذ تلك الفترة حتى الآن.
من الآن وإلى حين الوصول إلى موعد الاستحقاق الانتخابي من الصعوبة التكهن بمجريات الأحداث، أو معرفة اتجاهات القوى الأخرى الفاعلة على الساحة اللبنانية وموقفها من الاستحقاق.
فأياًّ تكن ما تحمله الأيام لاحقاً فإن لبنان أمام خطين متوازيين يختزلان توجهات الكتل والتيارات والأحزاب والقوى الداخلية، خطٌّ يعمل ويسعى لإجراء الانتخابات مدفوعاً بتصميمه وبرغبته لإحداث تغيير ما عبْر صناديق الاقتراع عندما تصب نتائجها في صالح لبنان دولة ومجتمعا، هذا الخط يستند إلى حساباته المرتبطة بهدفه الرامي إلى انتشال البلاد والعباد من القاع المظلم الذي أوصلته الطبقة السياسية الحالية إليه، ويعتمد في رهاناته على الروح المتوثبة، ليس في صفوف الشباب الذين فجّروا الانتفاضة التشرينية فقط، بل وعلى ما أحدثته الانتفاضة من تحريض لدى معظم قطاعات المجتمع اللبناني للتعبير عن احتقانهم المتراكم جراء العبث المليشياوي والحزبي بمقدراتهم ومقدرات البلد ورفضهم له من جانب، ويبني من جانب آخر على تبعات الصدمة التي تلقاها رموز الطوائف والتيارات المتمترسة خلف مفاهيمها الطائفية والمذهبية والطبقية في إدارة شؤون الحكم، وما سببته من خلخلة لبناهم، ولو بشكل نسبي أمام حواضنهم قبل خصومهم.
أما الخط الآخر، فقد بدا منغمساً في حساباته ومنهمكا في ابتكار تدابير وأساليب لعرقلة إجرائها أو نسفها كاستحقاق وطني عام، إذا ما أدرك أن خواتيمها لن تكون في مصلحة بقائه أو إنها لا تدعم خياراته ولا تعزز استمرار سطوته.
ما يحتاج إليه الشعب اللبناني اليوم يكمن في قدرة شرائحه المتنوعة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي برزت في ساحات الثورة التشرينية المتحررة من سطوة الأحزاب التقليدية والتيارات والقوى الولائية، على سحب البساط من تحت أقدام هذه النماذج جميعها، وترجمة شعارات ثورتهم إلى فعل سياسي ووطني موحد الهدف، متعدد المسارات، فعلٍ سياسي ووطني يسمح بعودة التناغم بين شرائحه المتنوعة، ويفرض عودة المجتمع السياسي اللبناني بسياقاته الفردية والجمعية إلى ساحة الحضور والتأثير.
مهمة تبدو، للوهلة الأولى، شاقة بعد التجربة التي خاضها ثوار تشرين حين تعرضوا للغدر من غالبية أضلاع مربع الطبقة السياسية، بيد أنها ليست مستحيلة التحقق في ظل بروز عوامل ذاتية لبنانية، وأخرى خارجية تتساوق مع توقهم لتجديد وجه بلادهم، الذاتية منها تتمثل في عزوف بعض القوى والشخصيات اللبنانية عن المشاركة في الانتخابات، وإعلان تيارات أخرى الانسحاب من الحياة السياسية استباقا للاستحقاق الانتخابي، في سابقة غريبة عن الحياة الحزبية والسياسية اللبنانية.
هذا التوجه ينطوي على بُعدين يصبَّان في مصلحة مشروعهم، الأول خُلوّ ساحة من ساحات المنافسة من الشخصيات التقليدية ونهاية دورها وتأثيرها، ما يتيح الفرصة لاستثمار كثير من طاقات وكوادر القوى الناشئة لملء الفراغ ودعم خياراتهم، والثاني تشجيع الحواضن الشعبية الأخرى على الانخراط في تشكيل وحدة مجتمعية سياسية خارج أطر الأحزاب وقيودها، وانتقالها إلى دائرة الفعل عبر الممارسة الانتخابية والدفاع عن نتائجها.
المبادرة الخليجية تجاه لبنان تأتي على رأس العوامل الخارجية، التي يمكن للقوى الناشئة الاستفادة من معاييرها وأطرها ومضمونها بشأن المقاربات الداخلية لمجمل الواقع اللبناني المرجو، إذ تبدو كبارقة أمل. أولى بشائرها أنها كرست في نفوس وعقول الشعب اللبناني حقيقة عدم اكتراث الطبقة القابضة على مؤسسات الحكم بمصالح الناس والبلد، الذي دخل في نفق الانهيار الشامل، وأنها لا تملك من أمرها شيئاً بسبب هيمنة "حزب الله" الإرهابي وحلفائه على القرار السيادي اللبناني، وثانيها أن المبادرة، بمجرد طرحها، كشفت حالة الخواء والاهتراء التي نخرت جسد هذه الطبقة ولم يعد ينفع معها ترقيع أو ترميم.
هل تكون الانتخابات جسر عبور واعدا؟
المقولات السياسية، التي أفرزتها القوى الناشئة على الساحة اللبنانية إبان ثورة 17 تشرين، ترقى إلى مستوى برامج عمل بمعايير سياسية واجتماعية واقتصادية وطنية، قاسمها المشترك "فكرة استعادة الدولة والقرار المستقل ومقاومة حكم المليشيات ورفض السلاح غير الشرعي".. مطالب ليست جديدة لكنها امتلكت مشروعية إضافية بفعل تطورات الواقع اللبناني، وما طرحته انتفاضة تشرين من خيارات بديلة أمام المجتمع اللبناني على اختلاف مشاربه، غير تلك التي اعتاد تلقيها من قادة الأحزاب والطوائف إبان أي استحقاق وطني.. خيارات يمكن أن تسهم في وضع السلطة بكامل مكوناتها في مواجهة إرادة مجتمع متجانس في أهدافه، عندها يصبح الإنسان اللبناني المقترِع بمحض إرادته ووحي أهدافه لاعباً سياسياً مُسهِماً في تقديم النموذج البديل القادر على تغيير الواقع السيئ، وليس تابعاً حزبياً يؤدي دوره المرسوم وحسب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة