قبل أسبوعين زار وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي 3 دول أفريقية، هي نيجيريا، وغانا، وزامبيا.
العنوان العريض للجولة كان تعزيز العلاقات مع القارة السمراء في مجالات مختلفة. ولكن السؤال هو من تستهدف عودة المملكة المتحدة إلى ذلك الجزء من العالم، وهل تنجز المهمة بمئات ملايين الجنيهات الاسترلينية؟
زيارة كليفرلي جاءت بعد أيام من الانقلاب الذي وقع في النيجر ورفضته لندن، ليس فقط لأنه يقوض "الديمقراطية الانتخابية" التي جاءت بالرئيس المخلوع، وإنما أيضا لأنه يعزز احتمال توسع النفوذين الروسي والصيني في القارة السمراء، ويوسع المواجهة بينهما وبين الغرب الذي يتمسك بإرثه "الاستعماري" في أفريقيا.
شهدت الأحداث في أفريقيا خلال الأعوام الثلاثة الماضية تسارعا تجاوز الخطوات البريطانية للعودة إلى القارة السمراء.
فقد تبدلت أحوال دول بأكملها هناك، بينما كانت المملكة المتحدة تعيش فضائح قادة حزب المحافظين الحاكم، ثم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وبعدها موجة إضرابات كبيرة على تدني أجور القطاع العام.
رئيس الحكومة الأسبق بوريس جونسون الذي أطلق صافرة العودة لأفريقيا خلال مؤتمر الاستثمار البريطاني الأفريقي في لندن عام 2020، لم يعد في السلطة، وخلفاؤه لم يفعلوا الكثير لأن "اليد قصيرة والعين بصيرة".
فالمال هو جسر العبور إلى القارة السمراء، وخزينة الدولة تئن أمام احتياجات داخلية وخارجية كثيرة.
التمدد الروسي في أفريقيا يقلق البريطانيين أكثر من الحضور الصيني، فالروس يضربون الاستقرار هناك عبر نشر مرتزقة فاغنر ومساندة كل من يريد القطيعة مع الغرب، أو يرغب في إعادة صياغة علاقات بلاده مع الأوروبيين والأمريكيين، أما حجة موسكو فهي إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب، و"مساعدة" الدول الفقيرة.
أي فوضى في القارة السمراء يمكن أن تتسبب بموجات لجوء جديدة إلى أوروبا، وتزيد من خطر الإرهاب الذي حذرت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان قبل شهر واحد، من هجمات محتملة له في بلادها ودول القارة العجوز. وأعلنت عن استراتيجية جديدة لمواجهته قد لا تفيد أبدا إذا ما تهدمت "قلاع الغرب" في أفريقيا.
الدعم المالي قد يحدث فرقا إيجابيا في علاقات المملكة المتحدة مع الدول الأفريقية، ولكن يجب أن يكون كبيرا وموزعا أو مدارا بشكل جيد، ويواكب احتياجات تلك الدول في مجالات التنمية المختلفة.
خاصة أن بريطانيا غابت لعقود طويلة عن تلك الساحة التي يبدو أن دورها سيزداد في رسم السياسة الدولية على المدى المتوسط.
وتحتاج لندن أيضا إلى إجراءات وتدابير أخرى غير الدعم المالي لتعزيز علاقاتها في أفريقيا، على رأسها التعاون العسكري مع حكومات القارة.
وقد أقر وزير الخارجية البريطاني بأن تجاهل الغرب لطلبات دول أفريقية بتقوية جيشها وقواتها الأمنية، دفع بتلك الدول إلى التوجه لموسكو وفتح أبوابها أمام مرتزقة وأسلحة فاغنر.
في مقابلة حديثة مع صحيفة "فايننشال تايمز"، أكد جيمس كليفرلي أن بلاده ستنظر بجدية إلى طلبات دول القارة السمراء لتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة الأخطار الإرهابية التي تواجهها.
ولكن لأي مدى يمكن لبريطانيا أن تلبي الطلبات الأفريقية وهي تعيش أصلا تراجعا في إمكانات جيشها بعد الحرب الروسية الأوكرانية؟
ما حدث في النيجر ينذر باحتمال نشوب اضطرابات في عموم أفريقيا، وهنا تتمدد الحركات المتطرفة وتصدر إرهابها مع المهاجرين عبر البحر للدول الأوروبية، ولكن الخطر لا ينتهي هنا، فالقارة السمراء سوق كبيرة لا يريد الغرب خسارتها، خاصة المملكة المتحدة التي تبحث عن شركاء تجاريين بشتى السبل بعد "بريكست".
بلغت قيمة التجارة البريطانية مع أفريقيا نهاية العام الماضي نحو 35 مليار دولار، مقارنة بأكثر من 43 مليار دولار في 2012.
ووفقا للأرقام أيضا، تراجعت حصة بريطانيا من واردات أفريقيا إلى نحو 2.1% مقارنة بـ7% في عام 1997 و3.2% في 2012.
أما صادرات المملكة المتحدة فهي تشكل اليوم 2.6% من واردات أفريقيا، مقارنة بنسبة 4.4% في 2013، وما يفوق 5.9% في مطلع الألفية الجديدة.
تراجع عدد المشاركين في القمة الأفريقية الروسية التي عقدت مؤخرا إلى 17 زعيما، مقارنة بـ43 حضروا ذات الحدث عام 2019، يدلل على أن حكومات القارة السمراء لا تستعجل توسيع التعاون مع موسكو، خاصة بعد الهجوم الذي تشنه على أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022، ويثير نقمة الغرب عليها وعلى من يساندها ويقف معها.
على ضفة الصين، يعرب القادة الأفارقة عن عدم ارتياحهم بشأن المديونيات الضخمة التي تطالبهم بها بكين.
وعلى ذمة وزير الخارجية البريطاني يشعر زعماء القارة السمراء باستياء شديد إزاء عدم حضور الصين في "نادي باريس" المختص ببحث التعامل مع الديون السيادية للدول الفقيرة، وإمكانية احتواء سدادها بيسر وسهولة.
في ضوء هذه المعطيات، تعتقد المملكة المتحدة أن العودة إلى أفريقيا لا تزال ممكنة، ولكن الأمر يحتاج إلى تكثيف الجهود والإمكانات.
وربما يكون لمنظمة الكومنولث التي يقودها تشارلز الثالث دور في هذا الشأن خلال الفترة المقبلة، صحيح أن الملك لا يتدخل في سياسة الدولة، ولكن الدستور لا يمنعه من تعبيد الطرق أمامها.
لقد أبقت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية أبواب أفريقيا مفتوحة أمام العودة البريطانية، وأمضت عقودا طويلة في السعي لتجنب القطيعة مع دول القارة السمراء لعل المستقبل يجدد حضور المملكة المتحدة فيها، ليس كمستعمر للبشر والحجر طبعا، وإنما كحليف سياسي وشريك تجاري وعسكري مفضل على غيره من أقطاب العالم.
في النهاية، ستكون قمة الاستثمار البريطانية الأفريقية المقررة في أبريل/نيسان المقبل اختبارا حقيقيا لمدى نجاح حزب المحافظين الحاكم في استقطاب دول القارة السمراء، وإعادة إحياء العلاقات معها.
وفي هذا المسعى، لعل من المفيد لقادة المحافظين اليوم تذكر ما قاله قبل عقود رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ الحزب والمملكة المتحدة، ونستون تشرتشل "ليس المهم أن نبذل قصارى جهدنا، بل المهم أن نبذل ما هو مطلوب منا".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة