قراءة شاملة على أبواب ذكرى عام من توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية للسلام في العالم والتعايش المشترك.
سريعا جدا تمضي الأيام وها نحن نقترب من عام منذ أن تم التوقيع على وثيقة الأخوة الإنسانية، تلك القراءة الفريدة من نوعها على صعيد العمل المسكوني الحواري بين الأمم والثقافات، الشعوب والأديان، والتي حركت كثيرا جدا من المياه الراكدة في هذا المجال، لا سيما في ظل التوترات العرقية والمذهبية المتصاعدة منذ بداية الألفية الثالثة الميلادية.
على أنه من الجلي القول إن مثل تلك الوثيقة لم يكن لها أن تخرج إلى النور لولا أركان ثلاثة توافرت بنوايا صالحة ومقاصد عليا إيجابية ثابتة في أذهان القائمين عليها.
الوثيقة كانت الأساس الذي ستقوم عليه مسيرة الحوار وتقود الأخوة في مدارات تعاون تربوية مصيرية، وهو المشروع الذي تعده الإمارات مع حاضرة الفاتيكان خلال الأشهر القليلة المقبلة.
البداية ولا شك من عند دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة التي أضحت رسالة تنويرية وأداة إنسانية في محيطها الجغرافي الإقليمي وعلى الصعيد الأممي، والتي انطلقت فلسفتها ولا تزال من فتح أبوابها أمام العالم لتصبح الدولة الكوزموبوليتانية بمعناها ومبناها الرائد في العقد الثالث من القرن الحالي، مع ما تتسم به من قدرة على استشراف المستقبل وتقراه بعين الحاضر.
الركن الثاني نجده عند بابا الفاتيكان الحالي البابا فرنسيس، ذلك الكاردينال الفقير الآتي من وراء البحار والمحيطات العالية حيث الأرجنتين، ذلك البلد الثري بشعبه وعاداته وتراثه وتقاليده، ومع أنه رزح فترات طويلة تحت حكم الاستبداد إلا أن ذلك لم يغير من قلبه الطيب الساعي لجمع شمل العالم في عقد من الإنسانية العالية رفيعة المستوى، وقد كان قوة دافعة في طريق التوصل إلى تلك الوثيقة الفريدة من نوعها، ووضعها في مسارات ومساقات الترقي، على أمل تغيير وجه العالم التصادمي المعاصر.
أما الركن الثالث فموصول بالشيخ الإمام الدكتور أحمد الطيب، والذي كثيرا ما أشرنا إلى أن له من اسمه حظا ونصيبا، فهو رجل طيب القلب، عالم قدير، انفتح باكرا على حداثة العلم وعلى تلاقي البشرية عبر دراساته في الغرب وفرنسا تحديدا، ومن هنا كانت رؤاه ولا تزال تمضي في إطار من المودات الساعية إلى تقريب وجهات النظر وإلى التجميع لا التفريق وصياغة مستقبل أكثر إنسانوية، مجتمع بشري حقيق يصون كرامة الإنسان ورفعة شان الأديان.
كانت هذه هي الأركان التي قامت عليها وثيقة الأخوة الإنسانية والتي لم تكن حدثا بروتوكوليا، أو وسيلة دعائية، فلكل ركن من الذين قاموا عليها له نجاحاته، فالإمارات دولة عصرانية ضربت مثالا في الحكم الرشيد والنهضة الاقتصادية والثورة العلمية، والأزهر قامة روحية من ألف عام، فيما حاضرة الفاتيكان أكبر وأهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ بشهادة وول ديورانت صاحب موسوعة قصة الحضارة.
على أبواب ذكرى عام من توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية للسلام في العالم والتعايش المشترك تحدث الكاردينال "أنجيلو أيوزو غيسكو"، رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان الأيام القليلة الفائتة إلى أشهر مجلة كاثوليكية في العالم "لا تشيفلتا كاتوليكا": "الحضارة الكاثوليكية" والتي تقوم عليها الرهبنة اليسوعية إحدى أهم الرهبانيات ذات الفكر الرصين في الغرب، معتبرا أن الوثيقة بمثابة نافذة مفتوحة لإعطاء آفاق أعمق على درب الحوار بين الأفراد من مختلف الأديان، رجال ونساء ذوي الإرادة الصالحة.
هل كانت وثيقة الأخوة الإنسانية دربا قاصرا على المسيحيين والمسلمين في العالم؟
بالقطع ما كان من الممكن اعتبار الأمر على هذا النحو بالمرة، ذلك لأنه لو خرجت إلى الضوء بهذا الضيق الفكري لما كان لها مستقبل، ولعل تميزها وفرادتها يأتيان من سياق أنها وإن كانت فعلا معتبرا على درب الحوار بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط خاصة ، إلا أنها تفتح الدروب واسعة وتهيئ الطرق فسيحة مريحة لتناغم إنساني خلاق بين كل الرجل والنساء من أصحاب الإرادات الصالحة في شرق المسكونة وغربها وشمالها وجنوبها.
أكثر من مرة أكد البابا فرنسيس طوال العام المنصرم على أن الوثيقة بذاتها لا تملك شيئا لا يمكن مشاركته مع الآخرين، بل إنها دعوة ملموسة إلى الأخوة الشاملة، وهي أخوة ما أحوج العالم إليها في ظل ما أشار إليه المثقف العضوي الإيطالي الكبير الراحل "أنطونيو غرامشي"، من أن العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يولد، لكن الولادة متعسرة، وآلام المخاض جمة، الأول يمكن رؤيته، أما الثاني فإدراكه صعب وعسير وعليه، فإن أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل هو صناعته، وقد جاءت هذه الوثيقة لتضع لبنة وتقيم مدماكا في صناعة وصياغة إنسانية القرن الحادي والعشرين.
لم تكن تصريحات البابا فرنسيس عن الوثيقة ولا طائفة الكرادلة المحيطة به من أعضاء الكوريا الرومانية مجرد كلام إنشائي، بل طوال العام المنصرم ترجمت إلى أداة للتقريب بين الأخوة البشرية حول الكرة الأرضية، فعلى سبيل المثال وخلال رحلة البابا فرنسيس الأخيرة إلى تايلاند، عمد البابا إلى مشاركة الموضوعات الموجودة في وثيقة أبوظبي والإشارة إليها.
حدث ذلك حين قدم فرنسيس نسخة من الوثيقة إلى كبير الكهنة البوذيين هناك، متمنيا عليه التعاون الثنائي الخلاق من خلال القيام بمبادرات ملموسة على درب الأخوة الإنسانية، ويومها صرح الحبر الأعظم بالقول: "إنه بهذه الطريقة نسهم في تنشئة ثقافة التعاطف والإخاء واللقاء، كما هو الحال في كل أجزاء العالم".
وفي كل الأحوال سوف تكشف الأيام المقبلة عن أن الوثيقة كانت الأساس الذي ستقوم عليه مسيرة الحوار وتقود الأخوة في مدارات تعاون تربوية مصيرية، وهو المشروع الذي تعده الإمارات مع حاضرة الفاتيكان خلال الأشهر القليلة المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة