بعدما حدد عالم النفس الأبرز سيغموند فرويد التعريف والأشكال الرئيسية لظاهرة "الإنكار" لدى الإنسان، تدفقت مئات الدراسات الرائدة في مجال علوم النفس، لتطور وتبلور أكثر فأكثر تعريفات وأنواع ومظاهر "الإنكار" كأحد "الأمراض النفسية" الرئيسية.
وبصورة عامة، تحدد "الإنكار" في علوم النفس على أنه آلية دفاع أساسية عن الذات يستخدمها بعض الناس للتعامل مع المواقف "السيئة" التي تواجههم، برفضها ومنع وصولها إلى وعيهم، وبالتالي إلى تعبيراتهم اللفظية والعملية عن هذا الوعي، ومن ثم تتعدد ردود فعلهم تجاه هذه المواقف، بعيداً عن حقيقتها.
وبحسب فرويد والدراسات اللاحقة، فهناك أنواع عدة من "الإنكار" أبرزها ثلاثة؛ الأول: البسيط والمباشر، وهو الإنكار والنفي المطلقان لحدوث الأشياء المؤلمة وغير السارة، والثاني: هو التقليل والتهوين من خطورة وأهمية هذه الأشياء المؤلمة واعتبارها هينة ضئيلة التأثير، والثالث: هو البحث عن "آخرين" غير الشخص "المٌنكِر"، ليعتبرهم "المسؤولين" عن وقوع تلك الأشياء المؤلمة وليس هو نفسه.
واستكمالاً لمقالنا السابق في متابعة إعلام جماعة الإخوان التقليدي وعلى شبكات التواصل تجاه مصر والموجه من خارجها، خلال الفترة الأخيرة منذ بدء العدوان الإسرائيلي الدموي على غزة، يلحظ أي متابع غير منتظم ولا مدقق لهذا الإعلام، عموماً منذ نشأته خصوصاً في هذه الفترة، أن مرض "الإنكار" بكل ملامحه المشار إليها آنفاً وكما بلورتها دراسات علوم النفس البشرية الرئيسية، هو المهيمن على القائمين على هذه الإعلام، تقديماً، وبثاً، وتدويناً، وإعداداً.
فما جرى في مصر من تطورات منذ ثورة شعبها العظيم في 30 يونيو/حزيران 2013 ضد حكم الإخوان، لا شك أنه كان مساراً طويلاً ومركباً من التطورات والتغيرات، التي كانت خلاصتها النهائية هي قدرة الدولة المصرية على الخروج بالبلاد من أسوأ الأوضاع الأمنية والخارجية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي عرفتها خلال كل تاريخها المعاصر، إلى حيث إعادة بناء الدولة واستقرار مقومات وأركان المجتمع.
ولا شك أن الوضع الحالي الذي وصلت إليه مصر بعد هذه السنوات الشاقة، ليس هو الأمثل الذي يبحث عنه نظامها السياسي ويتطلع إليه عموم المصريين، لكن لا تمكن مقارنته مع ما كانت عليه قبل أحد عشر عاماً، فهي الآن تسير على الطريق إلى مستقبل أفضل، بعدما كانت حينها خارج أي طريق، تبحث عن نفسها في تيه الفوضى وحكم الإخوان.
وتطابقاً مع حالة "الإنكار" المرضية التي سبق وصفها، يواصل إعلام الإخوان ممارساته التي تؤكد كلها إصابته العميقة والمزمنة بها. ويبدو واضحاً من تحليل أداء ومضمون هذا الإعلام، وخصوصاً خلال الفترة الأخيرة، أنه مصاب بأنواع مرض "الإنكار" الثلاثة السابق توضيحها.
ويبدو النوع الأول هو الأكثر هيمنة وانتشاراً في وسائل هذا الإعلام ووسائطه، حيث يتم التجاهل والنفي المطلقان والمباشران لحدوث أو حتى رؤية كل التطورات الكبرى الإيجابية التي عرفتها وتشهدها مصر، والمؤلمة للغاية على كل فئات القائمين على هذا الإعلام، الذين يعتبرونها لم تحدث قط ولا يأتون على ذكرها أبداً.
ولا يغيب النوعان الرئيسيان الآخران من "الإنكار" عن شاشات ومنصات وصفحات إعلام الإخوان بدرجات متنوعة، فيظهر كثيراً بها النوع الثاني، بالإلحاح في التقليل والتهوين من بعض التطورات الإيجابية الكبرى والرئيسية في مصر، التي يكون إنكارها صعباً للغاية، وتقديمها باعتبارها قليلة التأثير وتافهة النتائج على المسار المصري، وفي سبيل الوصول لهذا يستخدم هذا الإعلام كل ما اعتاد عليه من أساليب "الدعاية السوداء" و"التسميم السياسي".
ويبقى استخدام القائمين على الإعلام الإخواني للنوع الثالث من "الإنكار" المرضي، وهو البحث عن "آخرين" غيرهم، ليعتبروهم "المسؤولين" عن حدوث التطورات "المؤلمة" لهم في مصر.
ومن الطبيعي والمتوقع أن ينحو هؤلاء إلى نظرية "المؤامرة" الأثيرة عند جماعتهم، وهي نسب أدوار متخيلة ووهمية لأطراف دولية وإقليمية في حدوث تلك التطورات "المؤلمة" لهم والمنكرة بالنسبة إليهم.
أما المفارقة التي تصل لحد المأساة – الملهاة، فهي نزوع كثيرين من هؤلاء القائمين على إعلام الإخوان إلى اتهام الشعب المصري نفسه بهذه المسؤولية عن حدوث ما يؤلمهم وينكرونه، نظراً لما يعتبرونه صمته وتقاعسه عن الاستجابة لدعواتهم للإطاحة بنظام الحكم في مصر، والتي لم تتوقف طوال أحد عشر عاماً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة