لم يكن بيان جماعة الإخوان المسلمين الموجّه إلى علي خامنئي مجرد انفعال عاطفي أو انحياز لحظي في زمن الصواريخ والرماد، لقد كان بيان "بيعة أخيرة".
تصدّرت البيان ألفاظ الخضوع، وعبارات الثناء، واعتراف كامل بقيادة "سماحة السيد" لـ"الأمة الإسلامية"، أمة منّ؟ ، وأيّ سماحة؟ ، وأين ذهبت كل مزاعم الاعتدال والوطنية والوسطية التي ظلّت الجماعة تروّجها لعقود في وجه النُقاد والخصوم؟، الجواب بسيط وصارخ، انتهى القناع.
بيان الجماعة في حقيقته ليس نصاً تضامنياً مع فلسطين، بل وثيقة خضوع سياسي وأيديولوجي لمحور طهران، إيران التي حرقت الشام، وأغرقت العراق، وأنتجت حزب الله في لبنان، وأطلقت وحش الحوثي في اليمن، باتت في عُرف الجماعة "قلعة الأمة" و"درعها المقاوم".
خامنئي الذي لم تُرَ له كلمة واحدة عن اغتيال علماء السنة، أو قصف المدنيين، أو حرق المدن العربية، أصبح عند الإخوان قائدًا شرعيًا لـ"المستضعفين"، وقائدًا معصومًا بحكم الضرورة السياسية.
الخطير في البيان ليس فقط ما ورد فيه، بل التوقيت والسياق والرسائل الخفية، الرسالة كُتبت في ذروة التصعيد بين إسرائيل وإيران، أي في اللحظة التي كان فيها خامنئي يُسقط شرعيته الدولية بعد أن تجاوز كل الخطوط الحمراء في قصفه المباشر لمناطق مدنية داخل إسرائيل، أن تختار جماعة الإخوان تلك اللحظة لتُشهر ولاءها لطهران، فهذا يعني أنها لا تكتفي بالاصطفاف السياسي، بل تتبنى بالكامل عقيدة "ولاية الفقيه" في مفهومها الأوسع، العدو هو من يخالفنا، حتى لو كان عربياً، والصديق هو من يسلّحنا، حتى لو كان طائفياً دموياً.
هذا البيان لا يُفهم خارج السياق التاريخي للجماعة. هو استكمال لسلسلة مواقف انكشفت في لحظات الأزمات الكبرى، فلنتذكر في 1990، حين اجتاحت دبابات صدام حسين الكويت، انقسم العرب بين من أيد الاحتلال ومن طالب بتحرير البلد الشقيق، الجماعة كانت في خندق صدام، دفعت بكل أدواتها الدعوية والسياسية لتبرير الغزو، وخلطت بين "مظلمة" البعث ومظلومية الجماعة في مصر والأردن واليمن، لم يكن الدفاع عن العراق، بل كان الاستثمار في اللحظة.
وما جرى بعد تحرير الكويت لم يكن مجرد نقاشات فكرية في المساجد، بل كان لحظة زرع لتنظيم جديد خرج من عباءة الإخوان، وسُمّي لاحقًا بـ"القاعدة في جزيرة العرب"، حشدت الجماعة خلاياها داخل المجتمع الخليجي، وألبست خطابها ثوبًا أمنيًا وتعبويًا، ثم أوصلته إلى نموذج بن لادن والظواهري، الغزوة لم تكن صدامية فقط، بل إخوانية، بحسابات التنظيم والتمكين والعدو القريب والبعيد، أعيدوا فتح أرشيف أشرطة سلمان العودة ودعاة الصحوة آنذاك وتذكروا أنهم عملوا تهيئة نفسية للشعوب أن تتقبل خطابهم وتنخرط في مجاميعهم.
اليوم، يعيد التاريخ نفسه، حماس، وهي الذراع العسكري– العقائدي للإخوان، تُطلق صواريخها بتمويل إيراني، وتتباهى بالتحالف مع حزب الله والحوثي، حزب الإصلاح في اليمن، فرع الجماعة، ما زال ينسحب كلما اقترب الحوثي، ويهاجم الجنوب كلما تنفّس، حركة النهضة في تونس أدّت نفس الدور التخريبي داخل مؤسسات الدولة.
كلها أذرع ناعمة وخشنة في آن واحد، تُديرها العقيدة لا المصلحة الوطنية، وتُبايع من يُقدّم السلاح لا من يحمي السيادة، حكومة أمر الواقع في بورتسودان هي الأخرى تصر على إحراق السودان.
ما يجب أن نتنبه له ليس فقط هذا الانكشاف، بل ما سيأتي بعده، التاريخ يُعلّمنا أن الجماعة تتحرّك في الظل كلما انكشفت في العلن، البيان العلني اليوم هو تمهيد لتحرك سرّي غداً، كما حدث بعد تحرير الكويت، ستنشط الخلايا، وستُعاد صياغة السرديات، وستُولد جماعات عنف جديدة بأسماء مختلفة، ولكن بروح واحدة، الإخوان.
والأخطر أن هذه اللحظة قد تمثل بداية موجة جديدة من "أذرع العنف السياسي" التي تنشأ داخل مجتمعات منهكة، وتُروّج لنفسها باعتبارها امتداداً "شعبياً" أو "تحريرياً" لما تصفه الجماعة بخيانة الحكومات الرسمية لقضية فلسطين، الخطر أن حماس الجديدة قد لا تحمل اسم "حماس"، وأن القاعدة القادمة قد لا تُشهر رايتها إلا بعد أن تتسلل إلى الداخل العربي تحت عباءة العمل الخيري أو الإعلامي أو التعليمي.
إن البيان الموجّه لخامنئي يرقى إلى كونه تحوّلاً حاسمًا في لغة الجماعة، لم تعد تُخفي اصطفافها، بل باتت تكتبه بالحبر السياسي وتوزعه في الإعلام. المعضلة هنا ليست فقط في النص، بل في ما بعد النص، أي في الخلايا النائمة التي ستتحرك، كما تحركت بعد 1991، تحت غطاء "المقاومة"، لتزرع أفكار التمكين، وتعيد تدوير المظلومية، وتفتح الباب لتشكيل جماعات جديدة أكثر تطرّفًا، تحت مظلة الجماعة الأم، وبغطاء شرعي يأتي هذه المرة من قم لا من القاهرة.
الدول الوطنية مطالَبة اليوم ألا تُكرر خطأ التسعينات الميلادية، لا مجال للتراخي، لا يجوز اعتبار هذا البيان "رأيًا سياسيًا"، إنه وثيقة اصطفاف مع محور معادٍ للعرب، مكتوب بلغة شرعية، وموجه للعقول المستعدة للتجنيد، من يقرأه من شباب الجماعة لن يفهمه على أنه دعوة لحوار، بل على أنه أمر عمليات.
المطلوب اليوم هو تفكيك حقيقي لماكينة الإخوان في الفضاء العربي، منابرهم، جمعياتهم، حساباتهم الإلكترونية، واجهاتهم الثقافية كل ذلك يجب أن يخضع للمساءلة. فالتنظيم لا يزال على قيد الحياة، وينتظر فقط لحظة مناسبة ليعيد إنتاج نفسه عبر أذرع أكثر عنفًا، وتحت شعارات أكثر براقة، قد لا تُسمّى "القاعدة"، وقد لا تُعلن نفسها "جهادية"، لكنها ستبدأ، كالعادة، بالدعوة والتربية والولاء.
لن تتحرر فلسطين بمن يمدح خامنئي ويهاجم أبوظبي، ولن تُحمى العواصم بمن يرى في حزب الله حليفًا وفي الدولة عدواً، وآن الأوان لنسمي الأشياء بأسمائها: من يكتب بيان شكر لطهران، يكتب شهادة خيانته للحقيقة، وللتاريخ، ولأمته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة