مرشد سري أم أخير؟.. السيناريو المرعب في صراع جبهتي الإخوان
تنظيم أسس بنيانه على شفا جُرف، فانهار به في أودية الظلام وصراعات المناصب، ما أفقده خطورته، ووضع مستقبله على المحك.
نهاية محتملة للتنظيم ربما لم يتخيل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها الأول أن يأتي يوم تتحدث فيه الأوساط السياسية عنها، وهو الذي لطالما تباهى بتماسك بنيان جماعته وقوتها.
مشهدٌ يطرح تساؤلات جدية، حول ما الذي غيرته السنون في تركيبة التنظيم وهيئته وعلى أي حال ستكون نهايته؟!
أسئلة انبرى محللون وسياسيون في الإجابة عنها متوقعين سيناريوهات لاستمرار التنظيم مع فقدان خطورته، وأخرى أكثر "سوداوية"، إلا أن الانقسام الذي ضرب مفاصل جماعة الإخوان، وقلب حالها رأسًا على عقب، يبشر بغير ذلك.
الدكتور عمرو الشوبكي المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية أرجع واقع تنظيم الإخوان الحالي إلى الأساس الذي أسس عليه التنظيم فهوى به في أسفل القاع.
وقال الشوبكي إن ما جرى هو نتاج أساس وصناعة وبنية الجماعة، مشيرًا إلى أنه واقع لكل من درس تاريخ الإخوان منذ 1928 وحتى اللحظة.
انقسام أفقي
"فهذا النمط المتمثل في الصراع على المواقع وعلى مكتب الإرشاد، وعلى قيادات التنظيم الخاص، تكرر بصور مختلفة منذ الماضي"، بحسب الشوبكي الذي أوضح أن الانقسام الحالي ليس رأسيًا فحسب بل أفقيا؛ فجبهتا إسطنبول بقيادة محمود حسين ولندن التي يرأسها إبراهيم منير، لديها أنصارها والأعضاء الذين يدعموها بشكل متقارب.
رؤية كان لها من الواقع نصيب؛ فبعد قرارات جبهة إسطنبول التي دفعت بالصراع الدفين للعلن، انطلقت ألسنة اللهب لتكوي أجنحة التنظيم، وقياداته نفسها، وألقت بمستقبل الجماعة في بحار مضطربة تتقاذفها الأمواج المختلفة، ويزلزل سفنها رياحها العاتية.
فما بين مستقبل مظلم وواقع مخيب للآمال، انطلقت جبهة إسطنبول، في سباق "مسموم"، نحو تنحية منافستها من على ساحة التنظيم؛ فقررت في يوليو/تموز 2022، تصعيد الصراع بفصل قائد جبهة لندن إبراهيم منير و13 قياديًا من الإخوان.
سباق "مسموم"
إلا أن جبهة إبراهيم منير التي تتخذ من الخطوات العملية والميدانية واللعب على أخطاء الآخرين ساحة لها، لجأت إلى تفتيت كتلة منافسه حسين في الداخل المصري، عبر استقطاب عناصر موالين لها، برشوة مقنّعة تعتمد على رعاية المحبوسين والمسجونين، بعد أن منعت جبهة إسطنبول الإنفاق على تلك العناصر، بحسب مصادر "العين الإخبارية".
ورغم السباق "المسموم" الذي دفع بمنير وحسين لشحذ أسلحتهما في ساحة المواجهة، إلا أن كلا الجهتين المتصارعتين لا تريدان تغيير الفكر أو المنهج، بحسب هشام النجار الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، في حديث لـ"العين الإخبارية".
وقال النجار، إن منهج الجبهتين واحد؛ سواء ادّعى منير أنه معتدل أو زعم بأن محمود حسين يعتنق النهج التكفيري أو أفكار سيد قطب، مشيرًا إلى أن تلك الادعاءات التي تأتي من باب المراوغة، هدفها واحد وإن كانت قياداتها تتبادل الأدوار في تنفيذه.
الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، لفت إلى أن كلا الجبهتين لا تريدان إصلاح التنظيم أو إحداث تغيير حقيقي بهدف إعادة الجماعة عن العنف، بل إنهما تريدان مصالحهما ومصالح أجنحتهما الخاصة والحفاظ على سلطتهما ونفوذهما داخل الجماعة، وعدم خسارة أوضاعهما.
لعبة الإخوان
الباحث نفسه، أشار إلى أن لعبة الإخوان والتي تحاول الجبهتان البعد عن مصيرها تتمثل في محاولات كل جناح إقصاء الآخر لتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور.
إلا أن النزاع المحتدم بين الجبهتين والذي تكشفت بعض ملامحه وبدت واضحة وضوح الشمس في كبد السماء؛ يعود لجذور من الصراعات سطرت بالدم تاريخ هذه الجماعة، التي أوشكت على الاقتتال الداخلي زمن المرشد العام الثاني للتنظيم حسن الهضيبي عام 1951.
ذلك النزاع والذي كان يحركه ويغذيه صراع المصالح والنفوذ، هو ذلك الدائر حاليًا بين جبهتي الإخوان؛ فكلاهما تدعيان أنهما صاحبتا الحق في إدارة الجماعة دون الجبهة الأخرى، بحسب أحمد سلطان الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، والذي أشار إلى أن الصراع الحالي هو بمثابة صراع على القيادة والسيطرة على جماعة الإخوان، ومن يتولى النفوذ فيها ويتحكم في مواردها.
على هذا النحو صارت الحال داخل أروقة الجماعة الموحلة ودهاليزها المعتمة، لتبرز تساؤلات حول: إلى أي بر ترسو سفينة الإخوان التائهة فوق الأجواء المتلاطمة؟ وما مصير ذلك التنظيم؟
تساؤلات عرج عليها عمرو الشوبكي، في حديثه لـ"العين الإخبارية"، مشيرًا إلى أنه حينما يكون الصراع على موقع المرشد، يعني أن الجماعة باتت أمام خطر كبير وتهديدات حقيقية لوجودها وقدرتها على التماسك بنفس الفعالية.
نتائج الصراع
الحاضر ينبئ بأن قيادات تنظيم الإخوان المكون من المرشد ومكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة، لم يعد يتبقى منه غير بضعة وعشرين عضوا فقط بالمكون الثالث، من أصل 117 عضوا، مما يبشر بنهاية وشيكة أو مرشد أخير، وفقًا للسيناريوهات الحالية، لكن ماضي الجماعة يقول غير ذلك.
هشام النجار الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، استبعد نهاية وشيكة للتنظيم الذي أسس لحاجة قوة خارجية؛ مشيرًا إلى أن بريطانيا ساعدت في نشأة التنظيم وتشكيله وتأسيسه، فيما لا يزال الدعم مستمرًا، ما دام هناك حاجة خارجية.
"فالتنظيم الذي بدأ في فترة العشرينيات (التأسيس) وعاد من جديد في فترة الستينيات والسبعينيات، ثم انتعشت آماله بعدما عرف بالربيع العربي، مستمر إلى الآن وسيظل جاثمًا على القلوب، طالما أن هناك قوى خارجية في حاجة إليه ليعمل بالوكالة داخل الدول"، بحسب النجار، الذي توقع ليس فقط استمراره بل تقويته واختراع مرشد وكيان وهيكل له حتى لو تخبط تمامًا وتعرض لأزمات كارثية وهائلة.
رؤية تحليلية للأوضاع الحالية والمستقبلية للتنظيم وافقها الشوبكي، قائلا في حديث لـ"العين الإخبارية"، إنه من الوارد أن يتسمر التنظيم حتى لو كان برأسين، في إشارة إلى إبراهيم منير ومحمود حسين، لكنه أكد أن من شأن هذا السيناريو أن يؤدي إلى مزيد من الإضعاف وفقدان الفعالية والخطورة للتنظيم.
ذلك السيناريو الذي يغذيه الانقسام سيفقد التنظيم الميزة التي كانت قيادات الجماعة تروجها للرأي العام، وهي قوة وهيمنة التنظيم القائم على السمع والطاعة، وتنفيذ الجميع للأوامر التي تهبط من وحي مكتب الإرشاد، بحسب الشوبكي.
فما كان عنصر قوة بات في الفترة الأخيرة مصدر ضعف ووهن، ولم تعد قوة التنظيم والجماعة والولاء لها أي عنصر مساعد يضبط الصراعات، بحسب الشوبكي الذي أشار إلى أن الجماعة انكشفت، بعد الانقسام على أهم موقع فيها وهو منصب المرشد.
ذلك المنصب الذي يمثل رأس الجماعة وذروة سنامها، وعمودها الفقري وعقلها المدبر والمخطط، والآمر الناهي، المبايع على السمع والطاعة، المُنزّه حتى القداسة، كان الصراع عليه بمثابة القشة التي أسقطت الأقنعة الزائفة ومزقت العباءات البالية لتنظيم الإخوان، الذي تبادل قادته الاتهامات، فجعلوا من الحقائق المتوارية عن الأنظار، بمثابة الكتاب المفتوح.
ضرب فكرة الإخوان
وحول أهمية منصب المرشد وانعكاس الصراع عليه على مستقبل الجماعة، يقول أحمد سلطان، في حديثه مع "العين الإخبارية"، إن المرشد دوما له قدسية ورمزية خاصة داخل جماعة الإخوان، إلا أنه عندما تقوم جبهة محمود حسين بعزل القائم بعمل المرشد في أمر لم يحدث منذ أن كان الإخوان مستعدين للاقتتال بالسلاح في 1954، فهذا يعد بداية الغيث لنهاية الإخوان.
إلا أن الانعكاس الأهم لذلك الصراع هو تأثيره وضربه للسردية حول الثوابت التي قامت عليها جماعة الإخوان بأنها جماعة ربانية وأن قياداتها تتمتع بالطهرانية المفرطة، بحسب سلطان، الذي قال إن كل هذه الأفكار التي رسختها الجماعة في أذهان أتباعها، انتهت وأثبتت الخلافات التنظيمية بأنها كانت مجرد حبر على ورق، تخدع بها الجماعة أتباعهم لتضمن ولاءهم ولتتحكم بها في مواردهم المالية.
ورغم أن سيناريوهات الصراع الحالي لا تضع نهاية وشيكة لتنظيم الإخوان، إلا أنها قد تكتب نهاية هيمنة منصب المرشد على التنظيم، ليبقى التحدي الأهم في اقتلاع الأفكار من العقول، بحسب مراقبين.
المرشد الأخير
ويقول الشوبكي، إن الجماعة اقتربت من "المرشد الأخير" أو مرحلة الصيغة الأخيرة وهي صيغة الجماعة الدينية ذات الأذرع المخلتفة، اقتربنا منها، مشيرًا إلى أن الجماعة تشهد حالة احتضار للصيغة التي قامت عليها جماعة؛ فجوهر الفكرة في أن القوة في التنظيم وأدائه، باتت واهنة، لكونها أصبحت تشهد انقسامات وصراعات داخلية.
أحمد سلطان الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، يقول إنه ليس من المستبعد أن تطوى صفحة الإخوان في المستقبل، لكن الخطر يكمن في وجود الأفكار المؤسسة للعنف أو التطرف، لأنها تجد دائما بيئة خصبة لتنتشر وتعود للواجهة من جديد في بعض الظروف الاستثنائية.
المرشد السري
ذلك الصراع وإن كان لا يكتب نهاية الإخوان كما رجح باحثون، إلا أنه سيعيد مجددًا فكرة المرشد السري التي ابتكرتها جماعة الإخوان منذ تأسيسها الثاني، نتيجة خلافات تنظيمة، بحسب سلطان، الذي قال إنه نتيجة عدم اقتناع مجموعة التنظيم الخاص أو التنظيم المسلح الذي كان الذراع العسكرية لجماعة الإخوان، بالمرشد الثالث عمر التلمساني، نصبت المهندس حلمي عبدالمجيد مرشدًا سريًا.
وبحسب سلطان، فإن عبدالمجيد كان أحد قيادات التنظيم في القاهرة وكان معروفا بأنه قطبي الفكر وظل قياديا بارزا في التنظيم الخاص حتى وفاته التي دفعت بمجموعة التنظيم القطبي، (مجموعة محمود عزت ومن تلاه خيرت الشاطر)، إلى التحكم في مفاصل جماعة الإخوان.
ومنذ ذلك التوقيت، بات التنظيم المسلح للجماعة أو القطبي مسؤولا عن تصعيد واختيار القيادات، واختيار الفواعل داخل جماعة الإخوان من منطلق أنه كان يرى نفسه وصيا على الجماعة ككل، ويحاول الحفاظ على ما يسمى بـ"النقاء الأيديولوجي"، بحسب سلطان.
إلا أن الرياح لا تأتي دوما بما تشتهي السفن، فالتنظيم الذي ظل مسيطرا على الجماعة لفترة طويلة، تعرض لضربة استراتيجية في 2013 حينما أطيح بحكم جماعة الإخوان من مصر، وألقي القبض على غالبية أعضاء مكتب الإرشاد والذين كان بعضهم منضويًا تحت لواء ذلك التنظيم المسلح.
ضربة استراتيجية
تلك الضربة الاستراتيجية كانت محطة فاصلة في تاريخ الإخوان، بحسب النجار، الذي قال إن وضع التنظيم قبل 2013 يختلف بشكل جذري عما بعد 2013؛ لأن الأزمة خرقت التنظيم وضربت بشكل هائل جسده وهيكليته، فقسمته بشكل كامل من القمة للقاع.
وفي الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، قال الشعب المصري كلمته بعد أن انتفض في ميادين القاهرة والمحافظات الأخرى، موجهًا ضربته القاضية حيث نشأت الجماعة وتفشت، وأنهى عقودا من التآمر والخداع والمراوغة.
تلك اللحظة، التي أعلن فيها آنذاك الفريق أول عبدالفتاح السيسي في بيانه الشهير، عزل رأس الإخوان محمد مرسي وتنحيته من منصب الرئيس، وتعطيل العمل بدستور الجماعة، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد.
إلا أنه رغم تلك الضربة الفاضية، توجد جبهتان للجماعة التي أسست بنيانها على المراوغة، لا يتم الإشارة إليهما بشكل كبير في وسائل الإعلام؛ الأولى جبهة أو تيار التغيير، أو جبهة المكتب العام في جماعة الإخوان وهم الممثلون لما يسمى بجبهة محمد كمال وهي الجبهة الأكثر تشددا التي تتبنى استراتيجيات العمل المسلح والعنيف ضد الحكومة المصرية، بحسب أحمد سلطان.
إخوان الداخل
وتتمثل الجبهة الثانية في إخوان الداخل وهم من تبقى من القيادات التاريخية لجماعة الإخوان وكانوا مندرجين بين مظلة إبراهيم منير ومحمود حسين حينما كان هناك اتفاق بينهما، يقول سلطان.
وأضاف أنه حينما حدث شقاق بين الطرفين، ظل إخوان الداخل ممثلين في اللجنة الإدارية في الداخل وهي لجنة استثنائية تعمل في ظروف صعبة للغاية، لا تتوافر معلومات عن المشرف عليها، بخلاف أن بها بعض القادة البارزين، كممدوح الحسيني الذي يلقب بالمرشد السري لجماعة الإخوان في الفترة الحالية.
ليكون الأمن المصري على موعد مع ضربة جديدة لجسد الجماعة الواهن، تضع حدا لآمال مرشدهم السري وتزج بهم في قفص الاتهام، حيث مكانه الذي يستحق بانتظار عدالة القضاء.
aXA6IDE4LjExNy43MS4yMTMg جزيرة ام اند امز