رغم تأسيس بنيانه على فكر عقائدي، فإن ممارسات تنظيم الإخوان التجسسية كانت ركيزة نشاطاته رغم مخالفتها للدين الذي نصب نفسه متحدثا باسمه.
فالتنظيم "الإرهابي" الذي لفظه المصريون في 2013، إثر ثورة شعبية اقتلعت جذوره، تنتظر قياداته أحكامًا جديدة بالحبس في "أخطر" القضايا التي ينظر فيها القضاء المصري خلال الفترة الحالية، ممثلة في "التخابر"، وقيادة جماعة إرهابية وتمويل الإرهاب والتجسس على مكالمات المصريين.
إلا أن تلك القضية التي ينظر فيها القضاء المصري، أثارت الكثير من علامات الاستفهام، خاصة بعد قرار النيابة العامة توجيه الاتهامات للمتهمين الذين تساقطت أوراقهم واحدًا تلو الآخر، بأنهم ارتكبوا الجرائم التي يحاكمون عليها، في الفترة من يوليو/تموز 1992 وحتى 12 ديسمبر/كانون الأول 2020.
تساؤلات طرحت نفسها على الساحة من قبيل: لماذا اختارت النيابة عام 1992 ليكون بداية لمحاكمة قيادات التنظيم على جرائمهم؟ ولماذا لم تبدأ بتاريخ التأسيس في 1928 أو عام 2013 مع بدء أعمال العنف التي حدثت آنذاك بعد تنحيتهم من المشهد؟ أو بعام 2017 وهو توقيت ضبط قضية تمرير المكالمات؟.
"العين الإخبارية" تنشر الحلقة الثانية ضمن سلسلة حلقات من واقع أوراق قضية التخابر التي أحيلت للقضاء للحكم فيها وهي رقم 12430 لسنة 2021 جنايات التجمع الخامس (شرق القاهرة)، والمقيدة برقم 1206 لسنة 2021 كلي القاهرة الجديدة، وشملت الاتهامات 73 مصريًا و8 أتراك.
وتأتي سلسلة الحلقات التي تنشرها "العين الإخبارية" من واقع أوراق قضية التخابر التي أحيلت للقضاء المصري للحكم فيها، متخذة من أوراق القضية 1992م منطلقًا لها، عبر شرح أسباب اختيار النيابة العامة لهذا العام كبداية للقضية.
وكانت الحلقة الأولى ركزت على بداية الخيط الذي وقع في قبضة القوات الأمنية المصرية، والذي جاء منذ لحظة اكتشاف أن هناك العديد من المكالمات الإخوانية الدولية تتم بشكل غير قانوني، إلا أن "الجريمة تبين أنها متشعبة ومتعددة الأركان، إلى التجسس والتخابر مع دولة أجنبية والإضرار باقتصاد الدولة والقيام بنشر شائعات وأكاذيب عن الدولة المصرية".
فما سر عام 1992؟
القانوني الدكتور ثروت الخرباوي، قال في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن "أي قرار اتهام من النيابة لأي متهم له أركان؛ منها تحديد الفترة الزمنية التي وقعت فيها الجريمة محل الاتهام"، مشيرًا إلى أن النيابة رأت أن المتهمين قادوا تنظيماً سرياً وجماعة إرهابية تستهدف قلب نظام الحكم وتغيير الدستور بالقوة بأدلة قاطعة لم تتوفر لها إلا بدءًا من العام 1992، وهو تاريخ ضبط الأجهزة الأمنية العديد من الوثائق التي تثبت إدانة المتهمين بالقيام بالفعل محل التجريم، ضمن قضية "سلسبيل".
الأمر نفسه، أكده مختار نوح المحامي والقيادي السابق في تنظيم الإخوان، والذي قال إن تحديد النيابة عام 1992م تاريخًا لبدء محاكمة قيادات الإخوان يعود للقضية رقم 87 لسنة 1992، والمعروفة إعلاميًا بـ"سلسبيل"، والتي ضبطت فيها أجهزة الأمن المصرية أربعة ملفات وصفها بـ"الخطيرة".
الملف الأول -بحسب نوح- أسماء التنظيم السري للإخوان وأعضاء المكاتب الإدارية في المحافظات والأحياء والمناطق والشعب، وكذلك أسماء الأجهزة المتعاونة في النقابات المهنية.
أما الملف الثاني فقد كان مختصاً بخطط الاستيلاء على مؤسسات الدولة والتعامل معها أو كيفية تحييدها إذا استحال اختراقها، وهو ما اشتهر بوثيقة "فتح مصر" و"خطة التمكين"، بحسب القيادي السابق في تنظيم الإخوان والذي قال إن الملف الثالث فقد تضمن ضبط أدلة تختص بقضايا التمويل الخارجي ومصادره، ومسارات المال الإخواني، وتحديدًا "بنك التقوى"، وعلاقة الجماعة بشركات التوظيف وبعض مؤسسات رجال الأعمال حتى لو لم يكونوا ضمن التنظيم.
فيما يختص الملف الرابع والأخير بالتنظيم الدولي وإدارته وعلاقتهم بالقاهرة، بحسب نوح الذي قال إن هذه الملفات هي الأدلة الحقيقية لوجود تنظيم اعترف أفراده بخط أيديهم بتلقيهم أموالا من الخارج، مشيرًا إلى أنه كان من الضروري أن تمتد الفترة إلى ما قبل 2017 أي إلى نقطة التأسيس ذاتها.
الدكتور أحمد ربيع الغزالي المحامي قال في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن قضية سلسبيل هي حجر الزاوية في كل ما مر بمصر الفترة السابقة؛ ففيها كشفت الأجهزة أدلة ومضبوطات وأحراز كافية، لفهم مخطط الإخوان لعشرات السنوات.
وفيما قال الغزالي إن النيابة أدركت أن العام 1992م هو بداية ذلك المخطط، أكد صعوبة اتهام الجماعة قانونيا منذ بداية التأسيس؛ نظرا لأنها كانت رسمية وقتها، بالإضافة إلى أن المشاركين في التأسيس توفوا منذ فترة.
قصة قضية سلسبيل؟
وحول القصة الحقيقية لقضية سلسبيل، قال نوح: في عهد مبارك أسس الإخوان الكثير من الشركات التجارية، بينها تلك التي أسسها القيادي الإخواني خيرت الشاطر عندما عاد من لندن منتصف الثمانينات، والتي كانت تدعى شركة سلسبيل للحاسبات ونظم المعلومات.
وأوضح نوح، أن الشركة التي كان يملكها الشاطر والقيادي الإخواني حسن مالك، ضمت أجهزة "كمبيوتر" حديثة وفق مفهوم عصرها، مشيرًا إلى أنها كانت مقرًا لاجتماع كثير من قيادات الإخوان، بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية أو هكذا ظنوا.
وأشار القانوني المصري إلى أن هذه الاجتماعات رصدتها الأجهزة الأمنية والتي وقامت بدورها بمداهمة مقر الشركة وتفريغ أقراص التخزين في الحواسب الآلية التي كانت بالمقر، مؤكدًا أنها ضبطت مستندات بخط أيدي القيادات الإخوانية.
وقال نوح، إنه رغم تأكيدات خيرت لقادة الإخوان -في ذلك الوقت- أن كافة المعلومات التي بالحواسيب لا يمكن اختراقها ولا فك شفرتها، إلا أنها أصبحت في متناول الأجهزة الأمنية المصرية.
الخرباوي تحدث بدوره عن تلك القضية، قائلا، إنها كشفت لأول مرة توجه الجماعة للحصول على المعلومات من داخل المؤسسات الحكومية وتفريغها للوقوف على توجهات تلك المؤسسات وكيف يمكن اختراقها أو تحييدها.
وفي محاولة منها لتنفيذ ذلك المخطط، قال نوح إن شركة خيرت الشاطر وردت أجهزة حاسب آلي لبعض المؤسسات السيادية ذات الحساسية الخاصة، إلا أن الأجهزة الأمنية تحركت فوراً خوفًا من اختراق الإخوان لأي مؤسسة رسمية.
أما الاتهام بقيادة تنظيم سري وتمويل الإرهاب فيبدأ أيضا من "سلسبيل"، بحسب الخرباوي، والذي قال إن الأحراز والمضبوطات تؤكد تلقي الجماعة أموالا مشبوهة من الخارج.
وأشار إلى أن قضية التخابر المتهم فيها قيادات بالإخوان تعد نتيجة طبيعية لإيمان التنظيم بضرورة اختراق المؤسسات والحصول على المعلومات وتحليلها وتصنيفها من أجل إقامة الدولة الإخوانية، مؤكدًا أن خيرت الشاطر كان شغوفا دائما بالتجسس على الآخرين، وما تصريحه الشهير بأنه يرصد مكالمات القيادات المصرية في الفترة التي كانوا يحكمون فيها، ما هو إلا خير دليل.
الغزالي قال، إن لدى النيابة سبباً وجيهاً لربط قضية التخابر مع تركيا بقيادة التنظيم في قضية 1992م، لكنه أكد أن قضية سلسبيل كانت مُعدة جيداً، إلا أنه قال إن حفظها وعدم إصدار حكم فيها، دفع النيابة لجعلها القاعدة لبداية الجرائم التالية.
سر التأسيس
وحول تأسيس الإخوان لشركات كمبيوتر ونظم معلومات بكثافة في هذه الفترة، قال الخرباوي، إن تنظيم الإخوان لم يكف عن اختراق المجتمع المصري، ولا يمل من المحاولة؛ نظرًا لأنه تنظيم وظيفي ينفذ ما يمليه عليه ممولوه في الخارج.
وأوضح أن شركات الحاسبات في مطلع التسعينات كانت أمرًا جديدًا وسوقًا غير مسبوق لا يستطيع اقتحامه إلا من يملك الأموال والأفراد، وهما شرطان تحققا لدى الإخوان في تلك الفترة، مما سمح لهم باقتحام شرائح مجتمعية مختلفة، سمحت لهم بقراءة خاصة لاتجاهات الرأي لرسم خطط استراتيجية للسيطرة على مفاصل البلد.
وأوضح أن هذه الشركات كانت الستار المناسب والطبيعي لوجود أجهزة جديدة وغريبة، لكون ذلك يبدو أمرًا طبيعيًا ولا يثير الشكوك، مشيرًا إلى أن شركات نظم والمعلومات تتيح لهم التعامل مع شبكات وشركات الإنترنت وبصورة تبدو سليمة، لكنهم يستخدمونها لأغراض غير قانونية.
أحمد ربيع الغزالي التقط أطراف الحديث، قائلا، إن الإخوان جماعة عاشت جل عمرها كتنظيم سري غير قانوني وملاحق، فكان منهجهم قبل بدء أي نشاط جديد التفكير في كيفية التنصل، مشيرًا إلى أن هذه الشركات بطبيعتها تسمح لهم بالتهرب من ارتكاب أي جريمة، وتعد ستارا مناسبا لأنشطتهم غير المرخصة.
كيف انتهت سلسبيل؟
ورغم أن أطراف خيط "التخابر مع تركيا" التي يحاكم فيها قيادات الإخوان حاليًا تعود إلى العام 1992م، إلا أن قضية "سلسبيل" انتهت قضائيًا بحفظها، وإخلاء سبيل المتهمين، بحسب نوح، والذي أرجع القرار حينها إلى "مواءمات سياسية"، والتي جعلت القيادة السياسية في ذلك التوقيت، لا تريد خوض معركة مع الإخوان.
إلا أن الخرباوي، قال إن تلك القضية أغلقت بعد ضغوط كبيرة تعرضت لها الدولة المصرية وقتها، وخصوصًا وأن قيادات الإخوان تواصلوا مع أجهزة مخابرات دول غربية عبر وسطاء لهم في أوروبا مثل يوسف ندا وغيره، لتكتفي الأجهزة الأمنية بما حصلت عليه من معلومات كشفت حقيقة التنظيم.
ورغم ذلك، إلا أنه بعد ثلاث سنوات قامت الدولة بتحويل عدد "كبير" من أعضاء مكتب الشورى ومكتب الإرشاد في الجماعة إلى المحاكمة العسكرية.
تلك القضية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، أن جرائم الإخوان لا تتوقف عند حد معين، بل إنها كلها ذات اتصال فكري وتنظيمي واحد، وإن تباعدت بينها السنوات، ليظل المحرك الأوحد لها، كيفية السيطرة على مفاصل الدولة.
وستركز الحلقة الثالثة التي توثقها "العين الإخبارية" من واقع أوراق قضية التخابر التي أحيلت للقضاء المصري للحكم فيها، على قضية "تمرير المكالمات خيانة عظمى أم جريمة اقتصادية؟".
aXA6IDE4LjExOS4xNjEuMjE2IA== جزيرة ام اند امز