السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي حرّك هذه الخلايا في هذا التوقيت وبهذه الكيفية الجديدة؟
"لا فيها لاخفيها" هذه إحدى أشهر العبارات التي استخدمها الإخوان المسلمون في مصر، وتعني "إما أن أكون جزءا منها أو لأقومن بالقضاء عليها"، واستخدموا هذه العبارة وقت أن وجدوا أنفسهم أمام طريق سياسي مسدود، ولم تكن حينها مجرد كلمة عابرة، بل كانت بمثابة كلمة السر لجميع الخلايا النائمة من أذرعها المسلحة بالاستعداد لمرحلة مواجهة نارية عانت منها مصر كثيرا، وكان الثمن فيها باهظا.
ظن كثيرون، ومنهم الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، أن تونس تمكنت من القضاء على الإرهاب، أو على الأقل تحجيمه، لكنهم فوجئوا جميعا بأن الإرهاب كان يعيش بينهم ويأكل ويشرب معهم
لم يمض يوم على إعلان حركة نداء تونس موقفها الأخير من النهضة ونيتها الدخول في مشاورات لتشكيل حكومة لا تضم النهضة، إلا وجاء الرد الذي يحمل بصمات الجماعات التكفيرية الإرهابية في قلب العاصمة تونس، هذه الجماعات لا تتحرك إلا في المناخات السياسية الضبابية، وتقوم بالأعمال القذرة نيابة عن عرّابيها من جماعات الإسلام السياسي، فهي لا تأتمر إلا بأمرها، ولأن إحدى هذه الجماعات وصلت إلى موقع سياسي متقدم كانت تحلم به منذ أمد بعيد فهي لا تستطيع تبنّي مثل هذه الأعمال علانية، لكن البيت الكبير الذي تنتمي إليه يتبنى في أدبياته العنف والقتل أسلوبا ومنهجا؛ لتغييب الحقائق وتوجيه الأمور لمصلحتها، وليس هذا بأمر غريب ولا ينكره أتباع جماعات الإسلام السياسي عموما، بل هو مثبت في مراجعهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي حرّك هذه الخلايا في هذا التوقيت وبهذه الكيفية الجديدة؟ هل كانت هناك كلمة سر أو إشارة مشفرة التقطتها هذه الجماعات؟ ولماذا التركيز على استهداف الأجهزة الأمنية لاسيما الداخلية؟
ظن كثيرون، ومنهم الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، أن تونس تمكنت من القضاء على الإرهاب، أو على الأقل تحجيمه، لكنهم فوجئوا جميعا بأن الإرهاب كان يعيش بينهم ويأكل ويشرب معهم.
مفاجأتهم وصدمتهم الأولى حين اكتشفوا أن شركاءهم السياسيين "رفيعي المستوى" متهمون بالضلوع في جرائم اغتيال سياسي سرية بحق من رفعوا أصواتهم بمناهضة ومناكفة فكر الإخوان ومن يتبناه، وعلى رأس المناضلين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذيْن تصدَّيا بقوة للنهضة، وكشفا زيف ادعائها.
أما الثانية والمدوية فهي عملية شارع الحبيب بورقيبة الذي يعد الشارع الأبرز في العاصمة، ورمزية هذه الرسالة متعددة المستويات، أولا فإن منفذة العملية هي سيدة وهذا بحد ذاته يحمل عدة رسائل بدءا من تغير الاستراتيجية الهجومية وليس انتهاء بالبلد الذي نفذت فيه العملية والخصوصية التي تتمتع بها المرأة في هذا البلد دونا عن بقية البلدان العربية، ثم إن شارع الحبيب بورقيبة هو ملتقى سياحي من الدرجة الأولى، كما أن مقر وزارة الداخلية كان على بعد أمتار من موقع التفجير، وكأن مرسل الرسالة يقول إن كان الأمر جديا - أي الإقصاء - فهذه نسخة مصغرة لما يمكن أن يشهده قلب العاصمة وفي هذا ضربة مؤلمة للسياحة التي تعتمد عليها تونس اعتمادا كبيرا في تغذية اقتصادها - الذي يعاني تدهورا اضطر منصات التصنيف الائتمانية لتصنيف تونس على أنها إحدى البلدان التي تشكل خطورة على الاستثمارات للأسف كما جاء في تقرير منتدى دافوس السنوي وغيره- كما أن من رسائل العملية أن الأجهزة الأمنية التي اكتسبت زخما واستعادت وضعها المؤسساتي سهلة الاستهداف، وغير قادرة على حماية قلب العاصمة وغيرها، بل غير قادرة على حماية ذاتها.
ولا ننسى أن هذا هو ثاني استهداف لثاني جهاز أمني تونسي هذا العام، بل بعد ثلاثة أشهر من استهداف الجماعات الإرهابية في يوليو الماضي دورية تأمين للحرس الوطني بمنطقة جندوبة شمال غرب البلاد راح ضحيتها ستة من رجال الحرس الوطني، وقبل عامين أيضا شهدت منطقة شمال غرب البلاد عملية مشابهة استهدفت الجهاز ذاته- الحرس الوطني- ونسبت العمليتان على الأرجح لكتيبة عقبة بن نافع التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، والسبب- من حيث التوقيت- هو النجاحات التي حققها جهاز مكافحة الإرهاب التونسي في توجيه ضربات استباقية للمجموعات الإرهابية التي كانت تنوي تنفيذ عمليات في مناطق جذب سياحي أو تحوز على اهتمام وسائل الإعلام؛ نظرا لموقعها الجغرافي على غرار عملية متحف باردو الدامية في مارس من العام 2015 التي كانت تهدف لإرسال رسائل مفزعة وضرب السياحة في التوقيت ذاته، وقد كانت الرسالة حينها موجهة إلى الصف الأول من القيادات العليا في الدولة؛ إذ كان بعضهم يعقد جلسة في مجلس نواب الشعب - المحاذي لمتحف باردو- وقد كانت جلسة مهمة لمناقشة مشروع قانون للإرهاب كان يحضرها وزيرا الداخلية والعدل وبعض قيادات الجيش والاستخبارات وبعض الخبراء، وقد شهدت البلاد في العام نفسه عمليتين إرهابيتين أخريين مزدوجتين في مدينة سوسة، ليكون بذلك الأكثر دموية من حيث عدد العمليات التي تستهدف السياحة التونسية التي كانت ولا تزال أملا كبيرا بالنسبة للاقتصاد التونسي الذي يعاني من سياسيات اقتصادية خاطئة متراكمة. ولم تخل السنوات التي سبقت عام 2015 من عمليات إرهابية ذات دوافع سياسية إن لم تكن جميعها كذلك.
ستبقى الأسئلة التي أشرت إليها تحوم حول توقيت كلمة زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي منذ أيام ومحتوى ما ورد فيها من تشبيه وربط بين حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وبين ما حدث في العام 2010 في تونس، وكان شعلة لأحداث متلاحقة هدفت للقضاء على استقرار الأوطان العربية، وكأنه تمهيد لمرحلة جديدة من المواجهة السياسية الممتلئة بالسيناريوهات الغامضة وغير المتوقعة، والذي يعرفه الجميع أن الغنوشي أحد أهم قيادات التنظيم العالمي للإخوان، وما يقوله يجب أن يحظى بكثير من التحليل والتأويل.
أثناء بحثي عن بعض المعلومات استوقفني تصريح لوزير الداخلية الأسبق- المستقل- لطفي بن جدو عام 2013، قال فيه: إن جميع الأحزاب تسعى للوصول إلى الداخلية أو لإيجاد موطئ قدم فيها.. وقد وجّهت أحزاب المعارضة أصابع الاتهام للنهضة حينها بتعيين أتباعها في مفاصل الوزارة.
خلاصة القول، إن المورد الأكثر عملية وإفادة للاقتصاد التونسي مهدد بالخطر- عبر البوابة الأمنية- لا سيما وأنه المورد الذي لا يحتاج إلى المرور بتعقيدات حسابات الاقتصاد العالمي والمحلي وغنائمه التي يتسابق للظفر بها من يريد أن يكون فيها أو سيخفيها.. وما تلك إلا أضغاث أحلام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة