ما حدث في واشنطن ليس حادثًا معزولًا، بل صدى متأخر لانفجارٍ أكبر وقع قبل أكثر من عقدين في نيويورك.
لم تتغير المعادلة منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001، فقط تغيرت الواجهة من الطائرات إلى المسدسات، من تنظيم القاعدة إلى ذئاب منفردة تتغذى على خطاب الإسلام السياسي المزخرف بشعارات المظلومية، بين التفجير الإرهابي الأول والرصاصة الأخيرة، ضاعت فرصة العالم العربي في تجديد خطابه الديني، وتردّد الغرب في مواجهة الجماعات التي تحتقر ديمقراطيته وتتغذى على قوانينه.
ما جرى في واشنطن هو ببساطة نسخة مكررة، وإن كانت مصغّرة، من 11 سبتمبر 2001، نفس الجذر العقائدي، ونفس التبرير السياسي المغلف بالشعارات، ونفس التساهل القاتل من قبل الغرب مع حاملي خطاب الكراهية تحت لافتة "الحقوق والحريات"، وبين التاريخين مسافة زمنية كافية كان يُفترض أن تكون مساحة للتعلم. لكن لا العرب جددوا خطابهم الديني، ولا الغرب جفّف منابع الإرهاب.
بالعكس، تمددت المدن الغربية من لندن إلى أمستردام فباريس وواشنطن، لتحمل أسماء يطلقها العرب في مجالسهم لندنستان، أمستردامستان، باريستان، وواشنطنستان، مدن باتت تنتج خطاب الكراهية باسم الإسلام، لا من كهوف قندرهار وتورا برا في أفغانستان، بل من قلب المساجد المرخّصة، والمنظمات غير الحكومية، وصفوف الجامعات.
القاتل في واشنطن لم يكن بحاجة إلى تعليمات من قيادة، يكفي أنه تربّى في مناخ أيديولوجي سمح بخلط فلسطين بالإرهاب، والحرية بالذبح، الكلمة التي أطلقها قبل الرصاص ليست زلّة لسان، بل اختصار لعقود من التحريض باسم "قضية عادلة" خُطفت منذ زمن طويل على يد الإسلام السياسي.
وهنا تحديدًا يحضر تحذير مبكر وشجاع أطلقه وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، قال الرجل ما لم يجرؤ كثيرون على قوله: "الإخوان المسلمون أخطر من القاعدة وداعش"، لم تكن تلك مبالغة، بل حقيقة استشرافية، لأن الجماعة لا تطرق الأبواب بالديناميت، بل بالأوراق القانونية والمنابر الإعلامية، تتسلل كجمعية وتنتشر كفكر، وحين يحين الوقت، تُخرج من بين الصفوف من يضغط الزناد.
الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان لم يكتف بالتحذير من الفكر، بل نبّه بصراحة إلى أن استضافة جماعات الإسلام السياسي في الغرب تحت شعار حرية التعبير والديمقراطية، ستحوّل هذه الدول إلى حاضنات لخطاب الإرهاب والكراهية، وهذا تمامًا ما نراه يتحقق اليوم، حين تُطلَق النار من قلب العاصمة الأميركية باسم قضية مخطوفة وفكر ملوّث.
الغرب لم يأخذ هذا التحذير على محمل الجد، كان يراهن على "الاعتدال" في خطاب الجماعة، بينما كانت الأخيرة تبني شبكاتها داخل مؤسساته، الخطأ الأكبر كان ولا يزال في الفصل الوهمي بين "الإخوان المعتدلين" و"الإسلاميين المتطرفين"، كلهم أبناء النص ذاته، وإن اختلفت أدوات التنفيذ.
حادثة واشنطن لم تكن مفاجئة. بل كانت مسألة وقت فقط، الفشل في سن قوانين رادعة تحظر جماعة الإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي هو المعضلة الكبرى، لا في أميركا وحدها بل في كل الدول التي لم تعترف بعد أن المعركة لم تعد فقط مع الإرهاب المسلح، بل مع الإرهاب الناعم الذي يبدأ بالتحريض وينتهي بالدم.
فرنسا بدأت تفهم ذلك متأخرة، لكنها تفهم، باريس اليوم تضع الإخوان في صلب تهديدها الأمني. تلاحق تمويلهم، وتُضيّق على نشاطهم في الضواحي، وتدرك أن السماح بوجودهم باسم الديمقراطية هو تفكيك ممنهج للنظام الجمهوري نفسه، أما واشنطن، فهي لا تزال في مرحلة الصدمة، تكتفي بالتنديد بعد كل حادثة، ثم تعود لاحتضان نفس المجموعات التي تُنَظِّر للعنف تحت عباءة الحرية.
الرئيس ترامب، في ولايته الأولى، كان قريبًا من تصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية، تأخر القرار بفعل بيروقراطية الدولة العميقة، وضغوط مجموعات ضغط ودوائر إعلامية. اليوم، ومع عودته إلى البيت الأبيض، تُفتح النافذة مجددًا.
وهنا يأتي الدور الحقيقي للدول العربية المعتدلة، يجب أن لا نُضيّع الفرصة مجددًا، التنسيق مع إدارة ترامب يجب أن يذهب أبعد من مجرد تحالف أمني أو تبادل معلومات، نحن أمام لحظة سياسية تتيح تجريم جماعة الإخوان دوليًا، وتجفيف منابعها الفكرية، وفضح شبكة تمويلها العابرة للقارات.
ما بعد رصاصة واشنطن يجب أن يكون مختلفًا، لا مبرر بعد اليوم لتساهل قانوني أو تهاون سياسي مع منارات الفكر التحريضي، لا مفر من المواجهة الفكرية، القانونية، الأمنية، الإعلامية، مع من يحتكر الإسلام ليقيم خلافته على دماء اليهود والمسيحيين والمسلمين أنفسهم.
هذا المقال ليس صرخة غضب، بل إنذار مكرر لمن لم يستيقظ بعد، من لا يرى أن خطر الإسلام السياسي بات ماديًا، دمويًا، حاضرًا في شوارع العواصم الغربية، فهو إمّا أعمى أو متواطئ، رصاصة المتحف اليهودي ليست آخر الرصاصات ، بل مجرّد تذكير بأن النار لا تزال مشتعلة، وأننا نعيش تحت قنبلة موقوتة لا تنفجر فقط حين نسمع صوتها، بل حين نصمت طويلاً قبل أن نمنعها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة