إن أي محاولة لإخضاع بيان وزارة خارجية سلطة بورتسودان، بخصوص ما زُعم أنه إبعاد تمّ من قِبل دولة الإمارات لعددٍ من موظفي القنصلية السودانية في دبي خلال الأيام الماضية، لآليات التحليل السياسي بهدف قراءته ونقده، ستبوء بالفشل الذريع.
فما صدر عن هذه الجهة لا يمكن وصفه بأنه بيان رسمي أو صحفي، بل هو أقرب إلى اللهو والعبث.
زعم البيان أن موظفي القنصلية، الذين وصفهم بـ"الدبلوماسيين"، قد تم طردهم، وتعرّضت هواتفهم المحمولة وحواسيبهم الشخصية للتفتيش في مطار دبي، واصفًا هذه الإجراءات بأنها استخفاف من السلطات الإماراتية!
يا له من بيان سخيف وسقوط دبلوماسي مريع! فمن الذي يستخفّ بمن؟ فسلطة الأمر الواقع هي التي بادرت بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ولم تكتفِ بذلك، بل اعتبرت دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة (دولة عدوان). وهذا يعني، بحسب توصيف سلطة بورتسودان، بمثابة إعلان حرب! وبالتالي، فإن أولئك المغادرين، وجميعهم من العسكريين – رجال أمن ومخابرات وشرطة – أصبحوا خارج إطار الالتزامات التي ينصّ عليها اتفاق فيينا لتنظيم العلاقات الدبلوماسية، باعتبارهم عسكريين يُشكّلون خطرًا، بحسب ما صدر بإعلان سلطة بورتسودان. وكان الأجدر بهم المغادرة فورًا عقب إعلان حكومتهم قطع العلاقات واعتبار الإمارات دولة عدوان، لكنهم آثروا – بإيعاز من تلك السلطة – البقاء في دولة تُصنّفها على أنها "عدوة". فلماذا؟!
لا بد أن وظائفهم لها علاقة بأمر آخر، لا بالعمل الدبلوماسي أو تقديم الخدمات القنصلية، خصوصًا وأن كثيرًا من السودانيين المقيمين في دولة الإمارات قد كتبوا عن تجربتهم المريرة معهم والمضايقات الأمنية التي وجدها الكثير من المقيمين منهم، ولا ريب، فهذا طبعهم بحكم الوظيفة. ولا ننسى أن بيان قطع العلاقات، الصادر عمّا يُسمّى بـ"مجلس الأمن والدفاع"، نصّ بوضوح على أن المقاطعة تشمل سحب القنصلية أيضًا. ومن ثم، فإن بقاء هؤلاء العسكريين داخل دولة تُصنّفها سلطتهم كدولة عدوان أمرٌ مريب، يستوجب المساءلة والخضوع للاستجواب والمحاسبة، لا التباكي والشكوى. رغم أنني، بكل صراحة، لا أُصدّق حرفًا واحدًا مما ورد في البيان بهذا الخصوص، بل لا أُصدّق أي تصريح أو بيان أو خبر أو قرار يصدر عن سلطة الأمر الواقع، التي أدمنت الكذب والتدليس، حتى أصبحا سمتين ملازمتين لها.
والمثير للسخرية أن البيان اعتبر ما زُعم أنه قد حدث لموظفي القنصلية الأمنيين في المطار، تعبيرًا عن رغبة إماراتية في الإضرار بالسودانيين المقيمين في الإمارات! وكأن هؤلاء العسكريين يمثلون المقيمين السودانيين الذين يعيشون في دولة الإمارات في أمان ورخاء لا يُقارن بدولتهم في ظل وجود سلطة الحرب، وكأن دولة الإمارات هي التي قررت قطع العلاقات الدبلوماسية، لا هم (!) فلا يُعقل أن تعلن قطع علاقاتك بدولة ما، وتعتبرها دولة عدوة، ثم تتقاعس عن سحب طاقمك منها، خصوصًا العسكريين، ناهيك عن تفويض المهام إلى سفارة دولة أخرى ذات علاقات مميزة معك لرعاية المصالح، كما هو متعارف عليه في مثل هذه الحالات.
لكن السؤال هنا: من هي هذه الدولة التي يمكن أن تنوب عن جماعة إرهابية مسلحة تحارب شعبها؟ بالطبع لا توجد! فسلطة الكيزان/العسكر في بورتسودان تفرّ منها الدول كما يفرّ السليم من الأجرب، أضف إلى ذلك أنها لم تُبقِ دولة إلا وهاجمتها وأساءت إليها ووصمتها بالعداء. إنها سلطة اختارت أن تُخاصم العالم بأسره، وتتحصّن في بورتسودان وحيدة، تحت رحمة الطائرات المسيّرة. حتى (الدول القليلة) في المنطقة التي تتعامل معها، لا تعاملها كدولة، بل تتعامل معها كما كانت تتعامل مع جبهة النصرة في سوريا، وكما تتعامل الآن مع سلطة "إخوان" حماس في غزة!
أما المضحك المبكي، فهو أن البيان ذكر – بأسى بالغ حدّ البكاء – أن إجراءات تفتيش هواتف وحواسيب موظفي القنصلية المطرودين من الإمارات استغرقت وقتًا أطال بهم حتى فاتتهم الطائرة، ما اضطرهم إلى شراء تذاكر جديدة – أي والله، هكذا قال بيان ما يُفترض أنها وزارة للخارجية – ورغم شكوكي في رواية التفتيش كاملة، إلا أن البيان بدا وكأنه يستجدي أبو ظبي أن تتكرّم بدفع ثمن تلك التذاكر، وكأنهم عمّال يدخلون في اختصاص وزارة العمل، وليسوا موظفي سلطة خارجية، وقد قرروا بمحض إرادتهم عدم العودة إلى بورتسودان، وفضّلوا الذهاب إلى دولة أخرى، أكثر أمنًا وأمانًا.
إن هذه السلطة غير الراشدة تتناسب عكسيًا مع إرادة ورغبة السودانيين؛ فكلما طال أمد بقائها في الحكم، قلّ تقدير السودانيين بين الأمم وأُهدرت كرامتهم. ولا حلّ سوى بتضافر جميع السودانيين لإسقاطها من جذورها ورميها إلى مزبلة التاريخ، وليس تشكيل أي سلطة موازية لها، فهذه لن تخرج عن نسقها، ولن تلقى مصيرًا مختلفًا، بل إنها تُرسّخ مشروعية وجود تلك السلطة الغاشمة بدلًا من مناهضتها وإنهاء عهدها إلى الأبد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة