برفعه للعقوبات عن سوريا، أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إشارة تحول غير مسبوقة في نهج واشنطن إزاء الملف السوري، وتغيرًا ملفتًا في مقاربة لملف كان لسنوات أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتفجرًا في الشرق الأوسط.
ووراء القرار المفاجئ لا تكمن فقط الشعارات المعهودة عن حقوق الإنسان أو الانتقال السياسي، بل حسابات استراتيجية تمس صميم المصلحة الأمريكية، في منطقة تعيش واحدة من أكثر مراحلها تقلبًا.
القرار لم يأتِ من فراغ، فقد سبقته متغيرات ميدانية دراماتيكية أسفرت عن سقوط نظام بشار الأسد، وصعود حكومة جديدة بقيادة أحمد الشرع، في واقع مستجد فرض على واشنطن إعادة تقييم نهجها، خاصة بعد سنوات من الانكفاء، سمحت خلالها لكل من إيران وروسيا والصين بملء الفراغ الاستراتيجي.
وما يعزز فهم القرار الأمريكي هو تطور المقاربة الترامبية نفسها، والتي لطالما انطلقت من مبدأ “الصفقة الجيدة” وليس من سرديات القيم الليبرالية وحدها.
ترامب يرى أن سوريا ما بعد الأسد تمثل فرصة نادرة لعقد اتفاق سياسي-اقتصادي-أمني يحقق أهدافًا عدة دفعة واحدة: تقليص النفوذ الإيراني، منع التمدد الصيني، خلق فرص استثمارية أمريكية وخليجية، وضمان وجود دولة محايدة عند الحدود الشمالية لإسرائيل.
إنه باختصار مشروع لإعادة تدوير الفوضى إلى نفوذ، شرط توفر الحد الأدنى من الاستقرار.
ولكن حتى مع هذه الرؤية البراغماتية، لا يمكن تجاهل حجم التحديات. وبرغم وعود حكومة الشرع الواضحة بشأن تبني خطاب مدني ومكافحة التطرف، تؤكد بعض التقارير وجود انتهاكات ضد أقليات، وتنامي نفوذ عناصر متطرفة في مفاصل السلطة.
ومهما كانت حقيقة هذه التقارير، وإن كانت حقيقية أو مبالغًا بها وتُعتبر مجرد حوادث فردية، فهي تجعل من قرار رفع العقوبات خطوة محفوفة بالمخاطر السياسية، وتجعل الرهان الأمريكي مشروطًا، وليس تفويضًا مطلقًا.
وبرز الصوت الإماراتي المتزن والوازن، عبر مقابلة وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، مع شبكة “فوكس نيوز”. ففي معرض رده على سؤال حول مدى الثقة في الرئيس السوري الجديد، كان الجواب حاسمًا: “من المبكر استخدام كلمة ثقة”، مضيفًا أن الحكومة السورية الجديدة تقول ما يجب أن يُقال، لكنها تفتقر بعد إلى القدرة على التنفيذ، في مقاربة إماراتية ناضجة تؤمن بأن السياسة الخارجية لا تُبنى على العواطف، بل على القدرة والتقييم المتدرج للأفعال لا النيات.
وفي هذه اللحظة الحرجة، يظهر الدور الإماراتي كلاعب إقليمي فاعل، وقادر على فهم التعقيد، وتقديم خطاب يعبر عن عقل الدولة بدون اندفاع. فقد دعمت الإمارات بقوة المسار السياسي الجديد في سوريا، دون أن تغيب عنها الحاجة إلى شروط ومعايير واضحة، تضمن عدم تكرار مآسي الماضي. إنها مقاربة مختلفة عن شعارات “القطيعة” أو “الانفتاح غير المشروط”، وتستند إلى اختبار الجدارة على مراحل، وإبقاء القرار رهينة الأداء لا الخطاب.
كما أن الدور الخليجي والإقليمي عمومًا، لا سيما السعودي إلى جانب التركي، أسهم في تهيئة المناخ الدولي لرفع العقوبات. فالسعودية لعبت دور الضامن لتوجهات الحكومة السورية الجديدة، خصوصًا في الابتعاد عن إيران، فيما سعت تركيا إلى ضمان مصالحها في الشمال.
وكان واضحًا أن هذه التحركات منحت إدارة ترامب غطاءً سياسيًا للمضي في قرار رفع العقوبات، من دون أن يبدو الأمر كتنازل مجاني أو مغامرة غير محسوبة.
ويجب القول إن رفع العقوبات عن سوريا ليس نهاية المطاف، بل هو بداية مرحلة جديدة ستُختبر فيها الأطراف المعنية مدى قدرة حكومة دمشق الجديدة على الوفاء بالتزاماتها، ومدى قدرة واشنطن على إدارة التحول المعقد.
القرار بمثابة رهان مدروس، لكن النجاح فيه يعتمد على المتابعة الدقيقة، والربط الحازم بين أي دعم اقتصادي أو سياسي وبين التقدم الملموس في الإصلاح السياسي، والعدالة الانتقالية، وحماية الأقليات.
إنها سياسة تستبدل العقوبات العمياء بالانخراط المشروط، وتعيد تعريف أدوات التأثير الأمريكي في المنطقة.
وسيبقى السؤال: هل تملك واشنطن الصبر والمرونة الكافيين لمواكبة التحول حتى النهاية؟ وهل تستطيع حكومة الشرع أن تتحول من مشروع جبهة إلى دولة طبيعية تحترم التعددية وتحافظ على السيادة؟ الإجابة لا تزال قيد الاختبار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة