السياسة في عباءة الاقتصاد.. «معركة» بوركينا فاسو مع فرنسا لم تنته

لإدراكها أن فك الارتباط بفرنسا يمر عبر الاستقلال الاقتصادي، تعمل بوركينا فاسو على تفكيك الهيمنة في خيار سياسي هدفه سيادي.
فمنذ سيطرته على مقاليد الحكم عبر انقلاب بالبلد الأفريقي، يعمل الرئيس المؤقت إبراهيم تراوري على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وذلك من خلال تقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية وتسخير الموارد الداخلية.
نهج اقتصادي يرى خبراء أنه نتاج خيار سياسي واستراتيجي يعكس علاقة واغادوغو مع القوى الغربية خصوصا فرنسا، كما يختزل تغيرا في ميزان القوة بمنطقة الساحل الأفريقي.
وفي قراءاتهم للموضوع، يعتبر خبراء فرنسيون متخصصون في الشأن الأفريقي، أن الخطوات التي يتخذها تراوري تشير إلى مسار جديد لإعادة رسم العلاقة بين بلاده والقوى الغربية، وعلى رأسها فرنسا.
خارطة القوة تتغير
يقول تييري فيرساي، الباحث في «معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية» بفرنسا، إن تراوري يتبنى نهجًا اقتصاديًا ذا طابع سياسي واستراتيجي، يهدف إلى فك الارتباط عن الهيمنة الغربية وتعزيز السيطرة الوطنية على الموارد الحيوية.
ويعتبر الباحث الفرنسي، في حديث لـ«العين الإخبارية»، أن ما تقدم «يعكس تحوّلًا أوسع في ميزان القوى داخل منطقة الساحل الأفريقي».
وفي خطوة غير مسبوقة، أعلنت السلطات في بوركينا فاسو عن منح «الشركة البوركينية للمدخلات والمعدات الزراعية والحيوانية» -التي أُنشئت حديثًا عام 2024- حق الاحتكار الكامل في استيراد وتوزيع الأسمدة داخل البلاد.
وهذا القرار، الذي أُقرّ خلال اجتماع لمجلس الوزراء في 9 أبريل/نيسان الجاري، يأتي كجزء من جهود أوسع لتقليل الاعتماد على الفاعلين الخواص، ومحاربة المضاربة وارتفاع الأسعار، خاصة في القطاعات الحساسة مثل الزراعة.
ويرى فيرساي أن «إبراهيم تراوري لا ينفذ مجرد إصلاح إداري أو تقني، بل يتخذ قرارات تُعيد تعريف علاقة بوركينا فاسو بالاقتصاد العالمي، وتحررها من شروط السوق الحر التي كانت تُفرض عليها من الخارج».
ويضيف أن هذه الخطوة «تشبه ما فعله في قطاع المحروقات مع شركة سونابي، لكنها أكثر جرأة نظرًا لتأثيرها المباشر على الأمن الغذائي والدورة الزراعية».
وبحسب الخبير: «نحن أمام ما يشبه ثورة صامتة، تقودها سلطات انتقالية، لكنها تحمل في طياتها تصورات بديلة عن التنمية، وترسل إشارات واضحة إلى الخارج مفادها أن زمن التحكم الكامل من العواصم الغربية قد انتهى، وأن أفريقيا تعيد ترتيب أوراقها».
استعادة القرار
فيرساي يرى أيضًا أنه لا يمكن فصل السياسات الاقتصادية التي ينتهجها إبراهيم تراوري عن رؤيته السياسية الأشمل، والتي تهدف إلى إعادة بناء الدولة على أسس الاستقلال الحقيقي، لا فقط السياسي بل الاقتصادي والمؤسساتي أيضًا.
فنهجه، يتابع، «يقوم على تفكيك البنى التي كرّست التبعية للخارج لعقود طويلة، لا سيما التبعية للمساعدات الغربية المشروطة، والهيمنة الفرنسية الاقتصادية».
وقال إن «منح الدولة البوركينية السيطرة الكاملة على قطاع حيوي مثل الأسمدة، يعبّر عن فلسفة جديدة في الحكم، مفادها أن السيادة لا تتحقق إلا عبر السيطرة على الموارد الاستراتيجية وأدوات الإنتاج».
وأشار إلى أن هذه المقاربة تتحدى منطق «تحرير السوق الذي رُوّج له لعقود من قبل مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي غالبًا ما كان يفضي إلى تهميش الدول الأفريقية في سلاسل القيمة العالمية».
«الصديق» و«العدو»
الباحث الفرنسي يعتبر أنه في ما يتعلق بالبعد السياسي، فإن تراوري لا يخفي توجهاته السيادية، بل يوظفها ضمن خطاب جماهيري قوي، يجعل من «استعادة الكرامة الوطنية» محورًا أساسيًا.
كما أن نشره لقائمة «أعداء الداخل والخارج» ليس مجرد حركة شعبوية، بل إشارة رمزية إلى أن مفاتيح اللعبة السياسية والاقتصادية لم تعد بيد النخب المرتبطة بالمستعمر السابق أو بشبكات المصالح الخارجية، وفق الخبير.
ويرى فيرساي أن تراوري يحاول إعادة تعريف من هو الحليف ومن هو العدو، في سياق تحوّلات جيوسياسية تشهدها منطقة الساحل، حيث بدأت روسيا وتركيا والصين تحل تدريجيًا محل فرنسا وأمريكا، سواء من حيث الشراكات العسكرية أو الاقتصادية.
السياسة والاقتصاد
من جهتها، تقول سيلين باسيلي، الباحثة في «مركز الدراسات الأفريقية» بالعاصمة الفرنسية باريس، إن هذا التوجه «يعكس خيارًا سياسيًا واضحًا، يتمثل في استعادة الدولة لمفاتيح التحكم بالقطاعات الحيوية، في وقت تتصاعد فيه التوترات بين مالي وفرنسا، وتتصاعد المطالب الشعبية بإنهاء النفوذ الفرنسي».
وتضيف باسيلي، لـ«العين الإخبارية»، أن «قرار احتكار استيراد الأسمدة ليس منعزلاً، بل يأتي ضمن سلسلة من السياسات التي يتبعها تراوري لبناء نموذج اقتصادي قائم على السيادة والإنتاج المحلي».
وتوضح: «المثير للاهتمام أن هذا النهج يترافق مع تصعيد رمزي أيضًا، مثل نشر قوائم سوداء لما وصفهم تراوري بـ(أعداء الداخل والخارج)، وهو ما يشير إلى وعي سياسي عالٍ بأهمية بناء سردية استقلالية، مدعومة بإجراءات اقتصادية ملموسة».
وترجّح الخبيرة الفرنسية المتخصصة في الشأن الأفريقي، أن يكون لهذه السياسة أثر إقليمي واسع، حيث من الممكن أن تتبع دول أخرى في منطقة الساحل النموذج البوركيني إذا ما أثبت فاعليته.
وتشير إلى أن ما قد يرجح الطرح هو تزايد الدعوات في مالي والنيجر إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي، وتراجع الثقة بالمؤسسات الاقتصادية الغربية والدولية.