بوتين وبتدخله العسكري في سوريا، أراد أن يسجل قصة نجاح كاملة في سوريا، لذلك وضع نصب عينيه كيف يستغل موقع تركيا
بين القيصر الروسي بوتين والسلطان التركي أردوغان دروب كثيرة في سوريا، دروب بدأت مع إسقاط تركيا طائرة حربية روسية على الحدود التركية–السورية قبل سنوات، حادثة بدلا أن تشكل مدخلا للتصعيد بين الجانبين سرعان ما تحولت إلى عهد جديد بينهما، عهد أراده بوتين مرحلة لوضع أردوغان على سكة الاستراتيجية الروسية الأوراسية، تطلعا إلى إخراج تركيا من الحلف الأطلسي، فيما أراد السلطان من التقارب مع القيصر إرسال رسائل إلى واشنطن وبروكسل، مفادها أن أوراق تركيا كثيرة، وأنها ستلعبها ما لم يعطه الغرب صكا بقيادة أردوغان لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه الغرب، حيث طموحاته الدفينة، وعلاقاته السرية والعلنية مع الجماعات المتشددة، التي باتت تنظر إليه على أنه خليفة جديد.
السؤال هنا: هل فعلا سيتوجه أردوغان إلى مواجهة مباشرة مع الجانب السوري؟ يدرك أردوغان أن هذه المواجهة تعني المواجهة مع روسيا في سوريا، وأن ذلك أكبر من أردوغان، ولعل هذا ما يفسر صمت بوتين إزاء تصريحات أردوغان النارية، وربما يعرف أن هذه التصريحات ليست سوى موجهة للداخل التركي.
بوتين وبتدخله العسكري في سوريا، أراد أن يسجل قصة نجاح كاملة في سوريا، لذلك وضع نصب عينيه كيف يستغل موقع تركيا الجيوسياسي في الأزمة السورية، وكيف يدفع بأردوغان إلى الانخراط في أجندته، فكانت صفقة حلب الخطوة المفصلية في هذه الاستراتيجية، تلك الخطوة التي حولت مسار الصراع في سوريا، فجاء مسار أستانة، ومن ثم اتفاقات سوتشي بِشأن مناطق خفض التصعيد، كل ذلك دفع بأردوغان إلى أن ينقلب على نفسه، فلم يعد يهدد بإسقاط النظام أو يطالب برحيله، أو يتعهد بالصلاة في المسجد الأموي، بل باتت أولويته محاربة الكرد تحت عنوان مكافحة الإرهاب، مستفيدا من الضوء الأخضر الروسي له في عفرين، معتقدا أن اتفاقيات سوتشي وأستانة، ستجعل وجوده دائما في مناطق شمال شرق سوريا، وهكذا بدأ الرجل يفكر بتتريك هذه المناطق هوية وأرضا وسكانا، حيث لا شيء يعلو فوق صور السلطان والعلم التركي واللغة التركية، وأدواته في ذلك الاعتماد على الجماعات المسلحة بما فيها الإرهابية، حيث تمت غزوة جبهة النصرة لريف حلب الغربي تحت أنظار أردوغان في الوقت الذي يدعي محاربتها ويصنفها في لائحة الإرهاب، فوق ذلك، أعتقد أردوغان أن غزواته الثلاثة (درع الفرات- غصن الزيتون- نبع السلام) باتت حقيقة أبدية في مشروعه العثماني، وأنْ لا أحد يستطيع إخراجه من المناطق التي احتلها حيث يعتقد السلطان أن درس شمال قبرص المحتل منذ عام 1974 يمكن تكراره في شمال سوريا وشرقها.
انتظر القيصر الروسي السلطان التركي لسنتين، لم ينفذ خلاله أردوغان بنود اتفاقيات أستانة وسوتشي، انتظارا عرف بوتين يستثمره إلى أقصى حد، فباع له المنظومة الصاروخية إس – 400 مسببا له أزمة بنيوية مع واشنطن والأطلسي، حصل على عقود بناء مفاعل أقويو النووي في تركيا، نجح في مد الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا التي يريدها بوتين معتمدة على غاز بلاده في المستقبل، فيما كان أردوغان يتخبط بين موسكو وواشنطن، معتقدا أن رقصة البهلوان ستحقق له ما يريد، وفي الوقت نفسه جعل من بلاده الموصوفة بالعلمانية مرتعا للجماعات الإرهابية، من الإخوان المسلمين وصولا إلى فروع القاعدة في ليبيا ومصر والصومال وغيرها من البلدان التي يريد أردوغان السيطرة أو الهيمنة عليها.
عرف القيصر أن السلطان توغل كثيرا في مستنقعات كثيرة، وأنه بمغامرته في ليبيا استنفر العالم ضده، وأن الوقت بات مناسبا ليقول له إن اللعبة في إدلب، فكان الزحف لاستعادة السيطرة على إدلب بلدة بلدة، أحس أردوغان بالصدمة ولاسيما بعد مقتل جنود له بقصف للجيش السوري، سرعان ما صعد أردوغان وهدد وتوعد بالويل والثبور كالعادة. والسؤال هنا: هل فعلا سيتوجه أردوغان إلى مواجهة مباشرة مع الجانب السوري؟ يدرك أردوغان أن هذه المواجهة تعني المواجهة مع روسيا في سوريا، وأن ذلك أكبر من أردوغان، ولعل هذا ما يفسر صمت بوتين إزاء تصريحات أردوغان النارية، وربما يعرف أن هذه التصريحات ليست سوى موجهة للداخل التركي، وفي أحسن الحالات البحث عن إمكانية تفاهمات جديدة في مرحلة ما بعد إدلب، وهذه لعبة يجيدها بوتين جيدا، إذ سبق أن طرح الرجل العودة إلى اتفاقية أضنة ولو بصيغة معدلة. لقد قلص بوتين خيارات أردوغان في سوريا، ولم يبقَ أمامه سوى القبول بالهزيمة، دون أن يعني ذلك أن أردوغان سيتوقف عن اللعب بدماء السوريين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة