«تعفّن الدماغ» يسرق انتباهك ويراكم ثروات الآخرين.. هل هو سلعة تُباع وتُشترى؟

مع صعود مقاطع الفيديو القصيرة والتدفق المستمر للمحتوى الرقمي، تظهر ظاهرة جديدة تُعرف باسم "تعفّن الدماغ" (Brainrot).
وتعرف بأنها حالة من الاستهلاك المستمر وغير المركز لمحتوى ترفيهي سخيف يحفز العقل بالكاد، لكنه كافٍ لإبقاء المشاهد مشدودًا بلا وعي، متنقلاً من فيديو إلى آخر بما يشبه سلوك "الزومبي".
ورغم أن هذا النوع من المحتوى يُوفّر للبعض طريقة للهروب من الواقع أو "إيقاف التفكير"، إلا أنه أيضًا يمثّل وسيلة فعالة لإهدار الوقت. ويزداد قلق الخبراء الاقتصاديين حيال التأثيرات العميقة لهذه الظاهرة على أحد أهم الموارد الاقتصادية في العصر الحديث: الانتباه.
الانتباه مورد اقتصادي
لطالما ركّز الاقتصاد التقليدي على الأرض، والعمل، ورأس المال كعوامل إنتاج أساسية. لكن مفاهيم حديثة بدأت تُعيد تشكيل النظرة إلى الانتباه البشري كمورد نادر وقابل للتزاحم — أي أنه لا يمكن استخدامه في أكثر من مهمة في الوقت نفسه، وأن استهلاكه في نشاط ما يعني بالضرورة إهماله في آخر.
ويرى اقتصاديون أن الوقت الذي يُقضى في مشاهدة محتوى سطحي لا يمكن استرجاعه أو إعادة تخصيصه، وهو ما يجعل "تعفّن الدماغ" شكلاً جديدًا من أشكال الاستيلاء القسري على الموارد.
في هذا السياق، يقول باحثون إن الانتباه ليس فقط ضروريًا للإنتاج، بل يُستهلك أيضًا في الترفيه والتعلم والتفكير. وبالتالي، فإن القدرة على تركيز الانتباه – على سبيل المثال عند قراءة مقال صحفي – أصبحت أصعب مع وجود الهاتف في متناول اليد.
"العقلانية المحدودة" و"اللاانتباه العقلاني"
تستند هذه الرؤية إلى جذور فكرية عميقة. ففي سبعينيات القرن الماضي، قدّم الاقتصادي هيربرت سيمون مفهوم "العقلانية المحدودة" (Bounded Rationality)، مشيرًا إلى أن البشر لا يسعون دائمًا إلى الحل الأمثل، بل يرضون بالحل "الكافي"، نتيجة حدود معرفية وبيئية. كتب سيمون: "المعلومة تستهلك انتباه متلقيها. وفرة المعلومات تؤدي إلى فقر في الانتباه".
وفي 2003، طوّر الاقتصادي كريستوفر سيمز نموذجًا أطلق عليه "اللاانتباه العقلاني" (Rational Inattention)، أوضح فيه أن الأفراد لا يمكنهم معالجة سوى كمية محدودة من المعلومات في وقت واحد، ولذلك يتعاملون مع الأخبار والمتغيرات الاقتصادية مثل أسعار الفائدة بطريقة تدريجية وليس فورية.
الانتباه بين الإرادة والتحفيز الخارجي
غير أن الانتباه لا يُدار فقط بإرادة الفرد، بل كثيرًا ما يتم توجيهه من البيئة المحيطة. والنماذج الاقتصادية الحديثة تميّز بين نوعين من تخصيص الانتباه: الأول، "من الأعلى إلى الأسفل"، يفترض أن الفرد يقرر كيف يخصص انتباهه النادر لأفضل نشاط. الثاني، "من الأسفل إلى الأعلى"، يلفت إلى أن المحيط الخارجي – كصوت إشعار الهاتف، أو حركة مفاجئة – هو من يوجه انتباه الفرد.
ويشير باحثان في هذا المجال، جورج لويشتاين وزكاري ووجتوفيتش، إلى أن الحالة العاطفية للشخص تلعب دورًا محوريًا أيضًا: الألم، الجوع، والملل كلها حالات تدفع الفرد لتركيز انتباهه في اتجاهات يصعب مقاومتها.
سرقة الانتباه
وإذا اعتبرنا الانتباه موردًا، فإن المعضلة الأخطر تكمن في أنه غير محمي بحقوق ملكية. فلا قوانين تجرّم سلب انتباهك عبر تصميمات ذكية وخوارزميات مدروسة تعمل باستمرار على جذبك وإبقاء عينيك على الشاشة. ويحذر الاقتصاديون من أن انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي جعل من سرقة الانتباه أمرًا سهلاً للغاية. ولا توجد حتى الآن آليات فعالة لاستعادته، سوى اللجوء إلى حلول فردية. وينصح التقرير: "عندما تحاول قراءة عمود صحفي، أبعد هاتفك قدر الإمكان"،
ورغم التحديات، يرى الخبراء أن الحلول ليست مستحيلة. فبعض الأعراف الاجتماعية القديمة، مثل فرض الصمت في المكتبات، تهدف إلى حماية الانتباه. وربما يُسهم التنظيم القانوني في المستقبل القريب في تقنين استخدام التصاميم الرقمية التي تستنزف انتباه المستخدمين بلا وعي.
لكن حتى يحدث ذلك، تبقى أفضل وسيلة لحماية انتباهك هي إدراكك لندرته، والتصرف حياله كما تتصرف مع أي مورد اقتصادي ثمين: تخصيصه بحكمة، والدفاع عنه من السرقة.