تسعير الكربون في المنطقة العربية.. القصة كاملة
لا يتوقف الحديث عن تسعير الكربون عالميا كأحد الحلول لمعالجة تغير المناخ المرتبطة بالانبعاثات والاحتباس الحراري.
وجدد صندوق النقد الدولي دعوته إلى تسعير الكربون "لتسهيل الانتقال في مجال الطاقة"، وهو مطلب ممتد منذ أكثر من عقد.
ولا يمكن إغفال حقيقة أن قضية تسعير الكربون تشهد حالة من الجدل بين مؤيد داعم سواء حكومات وشركات ومنظمات وأفراد يرون أنه سيساهم في فرض تغييرات في سلوك الملوِّثين أو دفع الثمن، ومعارض كبعض كبرى الشركات الرافضة باعتباره سيزيد ارتفاع تكلفة السلع والخدمات، وخصوصاً الصلب والإسمنت.
ما يخص منطقتنا العربية واقتصاداتنا العربية هو.. هل نحن جاهزون للتوجه العالمي المدفوع بمطالب متكررة من جانب صندوق النقد الدولي لتسعير الكربون؟.. وهل يمثل تسعير الكربون للاقتصادات العربية ضرورة أم خيارا يمكن تجاهله؟.. وهنا يمكننا الاسترشاد بخبراء المناخ والاقتصاد معا لوضع رؤية التعامل العربي مع قضية تسعير الكربون.
الدول النامية ليس لديها خيار
يؤكد المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بتمويل أجندة 2030 للتنمية المستدامة، على أهمية الاستخدام الفعال لأرصدة الكربون كمصدر رئيسي لتمويل المناخ والتنمية.
وقال محيي الدين خلال مشاركته في جلسة حول أسعار الكربون والأسواق خلال المائدة المستديرة رفيعة المستوى حول السياسات بعنوان "تمويل المناخ لتحقيق التحول المستدام"،
وخلال المائدة المستديرة التي نظمها صندوق النقد العربي بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (AFESD) وصندوق النقد الدولي (IMF) ومجموعة البنك الدولي (WBG)، أشار محيي الدين إلى أن الدول النامية (وبينها بلادنا العربية) ليس لديها خيار سوى متابعة أي تمويل للعمل المناخي، بما في ذلك تجارة الكربون.
وشدد على أنه يجب تنظيم أسواق الكربون مع وضع أهداف التخفيف في الاعتبار، بحيث لا يتم نقل الانبعاثات من المشتري إلى البائع فقط.
ووفقا لدراسة حديثة نشرتها الباحثة سناء شريف المتخصصة في الإدارة البيئية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة يحتاج نظام سوق الكربون إلى إعادة تنظيمه استجابة لأهداف عدالة التوزيع.
ويجب أن يقلل نظام تداول الانبعاثات العادل من الانبعاثات ويوزع التكاليف بالتساوي مقترحة عددا من التوصيات في هذا الشأن أبرزها إعادة تركيز آليات تداول الكربون على السياسات التي تستخدم الخصومات أو الاستثمارات في التكنولوجيا النظيفة.
كيف تستعد الاقتصادات العربية؟
يشير الخبير الاقتصادي والمناخي الدكتور محمود محيي الدين إلى أن العلاقات التجارية للمنطقة العربية مع دول الاتحاد الأوروبي تعني أن على الدول العربية الاستعداد للمعايير واللوائح الأوروبية الخاصة بتجارة الكربون من خلال وضع معايير خاصة بها مع ضوابط واضحة لمراقبة الأسعار والتجارة وضمان الشفافية.
ويرى المبعوث الخاص للأمم المتحدة رفيع المستوى أن تجارة الكربون يمكن أن تحدث على المستوى الوطني أو الدولي مباشرة أو من خلال وسطاء ومن خلال الأسواق الطوعية أو الإجبارية، وكلها تحتاج إلى معايير وأنظمة محددة.
وأشار إلى وجود مجال للتعاون بين الدول وهيئات التمويل الدولية مثل صندوق النقد الدولي وبنوك تمويل التنمية بشأن وضع المعايير والضوابط التي تنظم أسواق الكربون، وتعزيز الاستثمار فيها وتشجيع مشاركة القطاع الخاص.
وفي هذا الصدد، سلط محيي الدين الضوء على تقرير الأمم المتحدة الصادر في COP27 بشرم الشيخ في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي حول المعايير التي تتحكم في الممارسات الاجتماعية والبيئية للشركات والقطاع الخاص، مشددًا على العمل معهم لمنع الغسل الأخضر.
وأشار محيي الدين إلى المبادرات العربية الفعالة التي أطلقت بشأن تشغيل ومراقبة أسواق الكربون في الإمارات والأردن والمملكة العربية السعودية ومصر.
وأضاف في هذا السياق أن منصة ائتمان الكربون في مصر لها تركيز محلي وإقليمي مهتم بتفعيل تجارة الكربون على المستويين العربي والأفريقي للمساهمة في تمويل التنمية والعمل المناخي في هذه المجالات.
هذا أيضا أكدته الباحثة في مجال البيئة ثناء شريف بالقول إنه يجب إعطاء الأولوية للشركات أو المنظمات ذات الفوائد المشتركة العالية، أولئك الذين لديهم مزايا بيئية واجتماعية تتجاوز الحد من الكربون.
بالإضافة إلى وضع إطار لمعايير الجودة والمنافع الاجتماعية المشتركة التي تأخذ في الاعتبار جميع المخاطر الاجتماعية والبيئية، والذي يتضمن:
- تقييم الأثر السابق والمستمر
- التشاور المستمر مع أصحاب المصلحة
- الضمانات
- آليات التظلم لتلقي التعليقات على مستويات مختلفة
الاقتصادت الخليجية وكفاءة الطاقة
كيف يمكن لتسعير الكربون أن يدعم التنويع الاقتصادي في دول الخليج العربي؟
سؤال أجابت عنه الدكتورة عائشة الصريحي المتخصصة بالاقتصاد السياسي، الباحثة بمعهد دول الخليج العربي في واشنطن، في ورقة بحثية نشرها تحالف قيادة تسعير الكربون (CPLC) هو مبادرة تطوعية تحفز العمل نحو التنفيذ الناجح لتسعير الكربون في جميع أنحاء العالم.
وترى الصريحي أن دول الخليج العربي -المملكة العربية السعودية والبحرين والكويت وعمان وقطر- تشهد تزايدا في الانبعاثات المرتبطة بالمناخ بالتوازي مع زيادة في الناتج المحلي الإجمالي واستهلاك الطاقة، وفقا لمعهد الموارد العالمية والصناعية والطاقة.
ولتجنب الآثار السلبية طويلة المدى - مثل زيادة إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وتدهور جودة الهواء المرتبط بزيادة الصناعات البتروكيماوية المكثفة للطاقة، فإن إصلاحات دعم الوقود الأحفوري، وتعزيز كفاءة الطاقة واستخدام تقنيات الطاقة النظيفة هي بالفعل مفيدة لمعالجة مثل هذه القضايا .
ويعد نظام ضريبة الكربون أفضل طريقة لملاءمة الظروف الوطنية والاقتصادية لدول الخليج على المدى القصير حيث يتماشى مع مخططات ضريبة القيمة المضافة التي تم طرحها مؤخرًا، كما أن سعر الكربون المحدد مسبقًا يخفف من التقلبات في تقلبات الأسعار المرتبطة بأسعار الكربون المرنة.
ولا تفرض أي من دول الخليج العربي حاليا سعرًا على انبعاثات الكربون.
ولكن في حال تسعير الكربون يمكن أن يتم استخدام الإيرادات المحصلة من تسعير الكربون كمصدر جديد للدخل يمكن توزيعه مباشرة على السكان، وكذلك توجيه الإيرادات المحصلة من تسعير الكربون نحو أبحاث وتقنيات الطاقة النظيفة.
وحسب الخبيرة الاقتصادية سيمكن هذا دول الخليج من تنويع اقتصاداتها على المدى الطويل، في نفس الوقت الذي يتم فيه التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري من أجل استقرار انبعاثات العالم وحسب حالة كل دولة على حدا.
خطوات على الطريق:
سوق دبي العالمي للكربون
كانت دولة الإمارات رائده نحو التوجه العالمي بشأن قضية التعامل مع آثار الانبعاثات وتحديدا قضية الكربون وأسست "سوق دبي العالمي للكربون" وهو سوق تباع فيه أرصدة الكربون ما يتيح لأي شركة في العالم التعويض عن انبعاثاتها الكربونية.
ويتيح "سوق دبي العالمي للكربون" للشركات شراء أرصدة الكربون من الموردين الذين يلتقطون انبعاثات الكربون المكافئة من الجو إما بإحدى التقنيات المتقدمة أو الوسائل الطبيعية مثل زراعة الأشجار والتوسع في زراعة النباتات في المدن.
ويهدف السوق إلى:
- تقليل انبعاثات الكربون بقيمة 50 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنوياً بحلول عام 2030
- تحقيق نمو اقتصادي مستدام
- جعل دبي مركزاً عالمياً للحد من التغير المناخي
- جذب الشركات التقليدية والشركات الناشئة والمستثمرين للمشاركة في عملية تعويض الكربون
- دعم الابتكار في تقنيات التقاط الكربون
- استقطاب الخبراء والمبتكرين في هذا المجال للعمل في دبي
وتقدم "سوق دبي العالمي للكربون" عملية تعاونية للتقليل من آثار تغير المناخ، فتسهم في الجهود العالمية لتحقيق ذلك. سيجتذب السوق الشركات التقليدية والشركات الناشئة والمستثمرين للمشاركة في عملية تعويض الكربون.
ويبرز "سوق دبي العالمي للكربون" التزام دبي بالحفاظ على البيئة، ويحسّن جودة هواءها ويوسع رقعة اخضرارها ويعزز نوعية حياة سكانها.
وفي يناير عام 2011 تأسس في دبي مركز دبي المتميز لضبط الكربون بموجب اتفاقية بين المجلس الأعلى للطاقة في دبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في دولة الإمارات، بهدف الاستحواذ على سوق متخصصة ومتنامية بهدف تحقيق اقتصاد منخفض الكربون وتامين التمويل البيئي والخدمات الاستشارية والبيئية.
سوق الكربون في مصر
على الرغم من أن نصيب مصر من الانبعاثات الدولية المسببة لظـاهرة تغير المناخ مقارنة بالدول الصناعية الكبـرى مثـل الـصين والولايات المتحدة منخفض نسبيا، إلا أن موقع الانبعاثات لا يؤثر علـى الآثـار العالميـة للأضرار المترتبة عليه، كما أن وجود آليات ببعض الدول دون غيرها يؤدي إلى ظاهرة تسرب الكربـون.
وسعيا من جانبها لتحقيق الفائدة المناخية والاقتصادية من قضية التسعير يتوجه صانعو السياسات المالية بمصر إلى وضع سعر للكربون وفقا لآليات السوق العالمية.
وكسبت أنظمة تداول الانبعاثات (ETS) شعبية في مصر لتحقيق أهدافها لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وربما يعوق اكتمال التجربة هو عدم وجود أي منصات محلية أو أطر قانونية.
واقترحت هيئة الرقابة المالية (FRA) في مصر خلال عام 2022 إجراء تغييرات على قانون سوق رأس المال رقم 95 لعام 1992 التنفيذي الذي يسمح بإطار قانوني لتجارة الكربون.
وسيسمح هذا التطور للمنظمات التي تعمل في المبادرات ذات الصلة للحد من الانبعاثات بالحصول على اعتمادات خفض الانبعاثات المعتمد (CER).
ونجحت البورصة المصرية بالفعل في جذب ما يقرب من 11000 مستثمر جديد في هذا الاتجاه في مصر، وفقًا لرامي الدكاني، الرئيس التنفيذي للبورصة المصرية.
ويُعتقد أن تطوير تجارة الكربون في مصر يمثل مشروعًا تجاريًا ناجحًا وسيطرة حكومية تنظيمية على السوق، من خلال جذب المزيد من المشاركين وتزويد الحكومة بسبل للربح ماليًا من النشاط ، سيساعد سوق التداول المحلي تجارة الكربون داخليًا على التعميم والتنافس مع الشركات التي تبيع الشهادات من خلال منصات خارجية.
تسعير الكربون اقتصاديا
يعني تسعير الكربون وضع سعر صريح للتلوث الكربوني كوسيلة لخفض الانبعاثات ودفع الاستثمارات نحو خيارات أنظف، ما يعطي سعر الكربون إشارة اقتصادية للملوثين ليقرروا بأنفسهم ما إذا كانوا سيوقفون نشاطهم الملوث، أو يقللوا الانبعاثات، أو يواصلوا التلوث ويدفعون ثمنه.
وفي دعوتها مؤخرا لتسعير الكربون قالت النائبة الأولى لمديرة صندوق النقد الدولي، غيتا غوبيناث، إن تسعير الكربون سيكون ضروريًا للمساعدة في تمويل الانتقال العالمي إلى الطاقة المتجددة، محذرة من زيادة اللجوء إلى الدعم المالي للمشاريع "الخضراء".
وأشارت غوبيناث إلى أن هذه الممارسة تزيد الإيرادات التي يمكن استخدامها بعد ذلك لمساعدة الأسر والشركات على التعامل مع انتقال الطاقة، وكذلك خفض الديون.
وقالت غوبيناث إن تسعير الكربون "فعال جدا في توجيه الاستثمار إلى حيث يجب أن يذهب وتوفير الأنواع المناسبة من الحوافز للمشترين للانتقال من نوع من الطاقة إلى نوع آخر".
ويعادل تسعير الكربون شراء "ترخيص للتلوث" لتغطية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
ووسع الاتحاد الأوروبي خصوصا سوقه للكربون الذي يعد بالفعل أكثر البرامج طموحًا في العالم ويغطي حاليًا حوالى 40 في المئة من انبعاثات القارة.
وفي تصريحات لها على هامش مؤتمر الأطراف cop27 بشرم الشيخ العام الماضي قالت مديرة صندوق النقد الدولي إن هناك حاجة للوصول بمتوسط سعر انبعاثات الكربون إلى 75 دولارا للطن على الأقل على مستوى العالم بنهاية العقد، حتى تنجح أهداف المناخ العالمية.
ويشير تحليل حديث إلى أن الإجمالي العالمي للالتزامات المحددة على المستوى الوطني للحد من الانبعاثات الضارة بالمناخ سيؤدي إلى انخفاضها بنسبة 11 بالمئة فقط بحلول منتصف القرن.
ومع أن بعض المناطق مثل الاتحاد الأوروبي تحدد سعرا أعلى من هذا المستوى للكربون إذ أن السعر الرئيسي في الاتحاد الأوروبي هو 76 يورو للطن تقريبا، ترى مناطق أخرى مثل ولاية كاليفورنيا الأميركية أن تباع مخصصات الكربون بأقل من 30 دولارا للطن، وهناك مناطق أخرى لا تحدد سعرا على الإطلاق.
يشار إلى أن سعر الكربون في الاتحاد الأوروبي ارتفع إلى أكثر من 100 يورو للطن للمرة الأولى، في علامة فارقة لإحدى الأدوات الرئيسية لدول المنطقة في مكافحة التلوث.
وارتفعت أسعار أرصدة الكربون المتداولة بموجب نظام الانبعاثات الرائد في الاتحاد الأوروبي، بنسبة 2% في فبراير الماضي، لتصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 101 يورو (107.4 دولار) للطن.
حسب بيانات البنك الدولي يطبق حوالي 40 بلداً وأكثر من 20 مدينة وولاية ومقاطعة بالفعل آليات لتسعير الكربون أو تخطط لتطبيقها، وهذه الجهات مسؤولة عن أكثر من 22 في المائة من الانبعاثات العالمية.
ويعمل العديد من الجهات الأخرى على وضع نظم تفرض تسعيرة للانبعاثات الكربونية في المستقبل. وإجمالاً، فإن هذه الإجراءات ستشمل ما يقرب من نصف الانبعاثات العالمية لغاز ثاني أكسيد الكربون.
وعززت البلدان من استخدامها لتسعير الكربون من خلال الضرائب أو أنظمة تداول الانبعاثات، فيما زادت التغطية عبر البلدان والقطاعات في 2021، وفقا لتقرير من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ويشير التقرير السنوي عن حالة واتجاهات تسعير الكربون لعام 2023 إلى أن حوالي ربع انبعاثات غازات الدفيئة في العالم (23%) تغطيها في الآونة الحالية 73 أداة من أدوات تسعير الكربون.