الصين ترفع شعار «الهيبة» في معركة الرسوم.. النزاع يدخل مرحلة «اللاعودة»

على الرغم من تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية شاملة على العالم، فإن الصين كانت الدولة الوحيدة التي ردت بموقف ثابت ومستمر.
وبينما اتخذ الاتحاد الأوروبي وكندا مواقف صارمة في العلن، فإن بكين فرضت جولتين من الرسوم الجمركية الانتقامية، إلى جانب إجراءات غير جمركية، مثل فرض قيود على الصادرات، والتحقيقات ضد شركات أمريكية، وإدراج شركات جديدة على "قائمة الكيانات غير الموثوقة". وقد أعلنت الصين رسمياً أنها ستقاتل "حتى النهاية" ضد ما تصفه بالنهج الأحادي لواشنطن.
ووفقا لتقرير نشرته مجلة فورين بوليسي تدرك بكين تماماً أن هذه الإجراءات قد تستفز ترامب وربما تؤدي إلى انهيار شبه كامل في التجارة الثنائية. فمع بلوغ مستوى الرسوم الجمركية حالياً نحو 150%، وتقييد الإعفاءات على السلع الأساسية التي لا يمكن استبدالها، أصبحت معظم أشكال التجارة بين البلدين غير مجدية اقتصادياً.
وفي الماضي، قبل تطبيع العلاقات، كانت التجارة الثنائية لا تتجاوز ملياري دولار. أما اليوم، فإن الحفاظ على 20% فقط من مستويات ما قبل الرسوم يُعد إنجازاً في ظل هذه الظروف.
ورغم أن التجارة مع الولايات المتحدة تمثل 2.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي الصيني، فإن السوق الأمريكية تظل أكبر وجهة تصدير منفردة للصين، إذ تمثل نحو 15% من إجمالي تجارتها الخارجية.
وهذا الصراع قد يؤدي إلى تراجع نمو الناتج المحلي الصيني بنحو 1.5 إلى 2 نقطة مئوية — وهو أمر خطير بالنظر إلى أن هدف النمو المحدد لهذا العام هو 5%. مثل هذا التباطؤ قد يتسبب في إغلاق العديد من الشركات وارتفاع معدلات البطالة، ما يزيد من الضغط على الاقتصاد الصيني.
تهديد جيوسياسي
وتتجاوز تداعيات الحرب التجارية الجانب الاقتصادي، إذ تمثل تهديداً جيوسياسياً حقيقياً. فقد تجد دول أصغر، مثل دول جنوب شرق آسيا، نفسها مضطرة للاختيار بين القوتين العظميين، خاصة وأن صادراتها غالباً ما تتكامل مع الصادرات الأمريكية وتتعارض مع الصينية. هذه الدول، التي لطالما اعتمدت على الصين اقتصادياً وعلى الولايات المتحدة في المجال الأمني، قد تتحول إلى الاعتماد الكامل على واشنطن.
ولكن لماذا اختارت بكين المواجهة بدلاً من تقديم تنازلات مؤقتة لإرضاء ترامب؟ بعد إعلان الصين عن رسوم انتقامية بنسبة 34%، أبدى ترامب غضباً واضحاً ليس فقط من الرد نفسه، بل من أن بكين لم تبادر أولاً بالتفاوض. الرد السريع والآحادي أضرّ بكبريائه وسلطته.
وفي المقابل، يتمسك القادة الصينيون بكبريائهم كذلك. يخشى الرئيس شي جين بينغ ورئيس الوزراء لي تشيانغ، من أن المبادرة بالاتصال بترامب دون ضمان رفع الرسوم أو في حال مطالبة ترامب بتنازلات أخرى سيُنظر إليها داخلياً كإهانة وتهديد لهيبتهم السياسية.
ووراء هذا الصراع الشخصي يكمن تحليل استراتيجي أعمق. تعتقد بكين أن الرسوم التي فرضها ترامب تهدف إلى محاصرتها وإجبارها على الخضوع. فالعلاقات الصينية الأميركية قد تغيّرت جذرياً منذ تولي ترامب الرئاسة لأول مرة.
وأصبح كبح صعود الصين أولوية قصوى للسياسة الخارجية الأمريكية، بغض النظر عن ساكن البيت الأبيض. فقد استمرت هذه السياسة تحت إدارة بايدن، وها هي تشتد الآن في ولاية ترامب الثانية.
وبعد اندلاع أول حرب تجارية عام 2018، ظلت بكين تأمل في تسوية دبلوماسية. وُقّع اتفاق "المرحلة الأولى"، لكن الرسوم لم تُرفع. ومع إدارة بايدن، تكرّست النظرة إلى الصين كأكبر منافس استراتيجي، وتواصلت سياسات الاحتواء.
مسألة وجودية
واليوم، في ظل إدارة ترامب الجديدة، عاد التصعيد بوتيرة أكبر. ترى بكين أن التصعيد الأمريكي يشكّل تهديداً وجودياً، وقد استجابت داخلياً عبر تغييرات شاملة بدأت منذ تولي شي الحكم في 2012: تعزيز سيطرة الحزب، وتكثيف الرقابة الاجتماعية، وتسريع عملية التحديث الصناعي. كما عززت بكين نموذج "الدورة المزدوجة" الذي يركز على الطلب المحلي والاكتفاء الذاتي في التقنيات الحيوية وسلاسل التوريد. إلى جانب ذلك، توسّع الصين شراكاتها مع الأسواق النامية من خلال مبادرة الحزام والطريق.
ورغم تباطؤ النمو وارتفاع البطالة، فإن الاستقرار السياسي والاجتماعي لا يزال قائماً. أظهرت الصين قدرة على الصمود أمام القيود التكنولوجية الأمريكية، وسجّلت تقدمًا في الذكاء الاصطناعي والرقائق، مع بروز شركات مثل DeepSeek التي عززت الثقة في تقليص الفجوة مع الولايات المتحدة.
وكما شهد قطاع الدفاع الصيني نمواً غير مسبوق، ما عزز ثقة بكين في موقعها الأمني. وداخلياً، ازدادت شعبية الموقف الصيني المتشدد، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى سلوك ترامب نفسه. فحتى مؤيدوه السابقون في الصين باتوا ينفرون من سياساته التوسعية، ومواقفه في أوكرانيا وروسيا، وتعامله القاسي مع كييف.
وبات يُنظر إلى ترامب في الصين على نطاق واسع كرمز للتعجرف والجهل والعدوانية. وبسبب الضغوط الجمركية المتواصلة، أصبح كثير من الصينيين يشعرون بأن هذه "البلطجة" قد تجاوزت الحدود. حتى من هم منتقدون لحكومتهم، أصبحوا أكثر تفهماً — أو دعماً صامتاً — للموقف الحازم لبكين.
وترى الصين نفسها الآن في موقع الدفاع عن التجارة الحرة والتعددية ضد تهديدات ترامب. وبينما لن تصطف معظم الدول علناً معها، فإن بكين تأمل في أن تترجم مواقفها إلى مكاسب أخلاقية ودبلوماسية.
وفي النهاية، تسعى بكين لإرسال رسالة واضحة: لن تُجبَر على التراجع، وهي مستعدة للرد بالمثل. وإن أدى هذا التصعيد إلى مفاوضات، فقد تمنحها المواقف الحازمة نفوذاً أكبر. وفي حال تفاقمت الأمور، فإن الصين تستعد لكل السيناريوهات — بما في ذلك مواجهة عسكرية محدودة. لكنها الآن تعتمد استراتيجية بسيطة: الضربة بالضربة، لا أكثر ولا أقل.
aXA6IDE4LjIyMy4xMjQuOTEg جزيرة ام اند امز