تفتح المملكة العربية السعودية أبواب عهد ذهبي في العلاقة مع الصين. ليس لها وحدها، بل لجميع الدول العربية الراغبة باستراتيجية متوازنة لاقتصاداتها وسياساتها الخارجية على المديين المتوسط والطويل.
السعودية اتبعت مسارا معاكسا لدول كبرى في الغرب قررت إسدال الستارة على عصرها الذهبي مع القطب الأسيوي. وفي ذلك دلالات عديدة عربية وإقليمية وعالمية. ولكنه لا يعبر أبدا عن تناقض أو استعجال في رسم السياسات. فالمملكة اليوم تنفذ ما خططته منذ سنوات، وتزيد عليه ما يواكب المرحلة ويساير التغيرات الدولية الكبرى.
لكل دولة ذات سيادة استراتيجية تلائم طموحات قادتها وتلبي تطلعات شعبها. وعندما تكون الدولة ذات مكانة دولية وإقليمية مثل السعودية، يصبح وضع الاستراتيجية مسئولية كبيرة لابد أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الحلفاء والأشقاء. وخاصة في أوقات صعبة ومنعطفات حقيقية يمر بها العالم بأكمله، في الاقتصاد والأمن والتكنولوجيا.
توسيع العلاقة مع الصين تعني بالنسبة للسعودية مزيدا من الانخراط في السياسة العالمية. وهذا حق مشروع لدولة ذات ناتج محلي يزيد عن تريليون دولار، وصاحبة أعلى معدل نمو في اقتصادها بين دول مجموعة العشرين خلال 2022. كما أنها تحققا فائضا في ميزانياتها بينما تعيش دولا كبرى الركود، وتسيطر على التضخم عندما تئن اقتصاديات عالمية تحت وطأته، وتحتار كيف تخفف من كلفة المعيشة على مواطنيها.
والاقتصاد ليس العامل الوحيد الذي يؤهل السعودية لدور أكبر وأهم في السياسات العالمية. ولكن يبدو أنه الأهم على ضوء ما يحدث من تغير في خرائط القوى والتوجهات الدولية. ولأن الرياض تقرأ ما بين السطور وتستشرف مسار التكتلات والتحالفات العالمية المقبلة، توظف جميع إمكاناتها نحو حجز المقعد الدولي المناسب.
لقد أثبت تعاملها مع الحرب الأوكرانية الروسية، قدرة السعودية على التأثير المباشر في مسار الأحداث العالمية لاحتواء تداعياتها السلبية. كما عكس قدرتها على قيادة توجهات دولية تراعي مصالحها ومصالح أصدقائها وأشقائها. وعندما تحتضن المملكة اليوم أول قمة عربية صينية، إنما تعلن عن واحد من أهم هذه التوجهات التي قد تفرض حتى على خصوم الرياض إعادة النظر في حساباتهم وخططهم القريبة والبعيدة.
على عكس ما يدعيه البعض، لا تبعث الرياض برسائل تهديد أو ابتزاز لأي حليف أو حتى خصم، في نقل العلاقات مع بكين إلى مستويات أكثر عمقا وتداخلا. فالسياسة المتوازنة بين الغرب والشرق، وبين القريب والبعيد، هي التي تسعى إليها السعودية. ومثل هذه السياسة لا يمكن ضبطها إلا بعلاقات مميزة مع الجميع، وباستراتيجية محلية وإقليمية ودولية واضحة المعالم، ولا تتأثر بمصالح أي دولة منفردة مهما كبر شأنها.
والحديث هنا يمكن أن يكون أكثر تحديدا مع الولايات المتحدة التي تقود الخصومة الغربية مع روسيا، وتبذل كل ما هو غال ونفيس من أجل حشد مشابه ضد الصين. فأمريكا تبحث عن عالم من قطب واحد لا ينافسها فيه أحد. وحلفاؤها وأصدقاؤها فيه هم أتباع لسياساتها ومنفذين لمصالحها. وهذا العالم لا يناسب السعودية، ولا حتى الأوربيين الذين يقفون إلى جانب واشنطن على الجبهة الغربية ضد سياسات موسكو.
في القارة الأوروبية، وحدها بريطانيا التي وقفت إلى جانب أمريكا ضد الصين. وقرار لندن بربط مصيرها بمصير واشنطن هنا لا يعيبه إلا أمر واحد هو محاولة تعميمه على جميع دول العالم، وكأنه واجدب مقدس ويلبي مصالح شعوب الأرض بأكملها. ولكن الدول التي تفرق جيدا بين التحالف والوصاية، وتدرك حدود تفاهماتها وتحالفاتها بما لا يضر بشعوبها، رفضت هذا التوجه، وقررت اختيار مسارات مختلفة تناسب مصالحها.
عندما مضت السعودية نحو الصين لم تقطع علاقاتها مع الولايات المتحدة. تماما كما فعلت ألمانيا وفرنسا والعديد من حلفاء أمريكا حول العالم. فهذه الدول تبحث عن الاستقرار في علاقاتها الخارجية، ولا يناسب مصالحها العالم احادي القطبية. والسبب، أن الكوكب بكل أعبائه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى البيئية، يحتاج إلى جهود دولية مشتركة، وتظافر في إرادات الدول وخططها نحو تحقيق الصالح العام.
وفي ضوء رؤيتها الاستراتيجية لعالم مستقر بين عدة قوى وأقطاب في المستقبل القريب، تقود السعودية المنطقة العربية بأكملها باتجاه علاقات دولية أكثر فاعلية في رسم السياسات الدولية. فتوظف كل إمكاناتها وتحالفاتها وصداقاتها للوصول إلى هذه المرحلة. دون شروط مسبقة، أو إملاءات باتباع صيغة تضر بمصالح الأشقاء.
وتراقب الدول الإقليمية باهتمام ما تقوم به السعودية من محاولة توجيه للسياسات العربية نحو مزيد من الفاعلية والتأثير عالميا. وهذا السلوك السعودي قد يقلق جدا من اعتاد التدخل بشؤون دول المنطقة دون حسيب أو رقيب. كما يخلط أوراق من توقعوا أفقا ضيقا للرياض في سياساتها الخارجية، وراهنوا على نقمة أمريكية من حياد مجلس التعاون الخليجي إزاء حرب أوكرانيا، والخصومة المشتعلة بين روسيا والغرب.
القمم التي تجمع العالم العربي مع الصين في السعودية، ليست فعاليات عابرة أو بروتوكولية بغرض الدعاية. وإنما هي ترجمة لاستراتيجيات وضعتها الرياض لتجني مع المنطقة كلها، ثمارها بعد سنوات. لا شك أن التحديات كثيرة جدا والخصوم لن يدخروا جهدا لتخريب المحصول بأكمله. ولكن المملكة خطت في مشوارها ميلا، وكما يقول القائد الفرنسي نابليون بونابرت "أحسن وسيلة للتغلب على الصعاب اختراقها".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة