اختتمت، أمس الجمعة، زيارة الرئيس الصيني تشي جين بينج إلى المملكة العربية السعودية والتي بدأها يوم الأربعاء الماضي لمدة ثلاثة أيام.
اشتملت الزيارة على ثلاث مستويات من المباحثات واللقاءات على مستوى القمة: قمة صينية-سعودية، وأخرى خليجية-صينية، وثالثة عربية-صينية. الأمر الذي يجعلها في واقع الأمر زيارة إلى منطقة الشرق الأوسط بأكمله، وليست فقط إلى السعودية.
ويتجسد هذا الواقع فيما تضمنته القمم الثلاث من تفاهمات واتفاقات. ليس فقط حول العلاقات الصينية مع الدول العربية فردياً أو جماعياً، لكن أيضاً في النطاق الأوسع المتصل بالاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك بالنسبة لاتجاهات المستقبل في علاقات دول المنطقة مع القوى الكبرى في العالم التي تتنافس على النفوذ.
معروف أن السياسة الصينية تركز حصرياً عن المصالح الاقتصادية وتحديداً أسواق للصادرات ومصادر للمواد الخام والطاقة الأحفورية، ثم مؤخراً المعرفة التكنولوجية. وهو ما تجسد في تفاهمات وحد أدنى من التنسيق مع دول مثل: روسيا، وإيران، وكوريا الشمالية، وفنزويلا، وكوبا. وهي، سياسياً، كلها دول مناوئة وليست على وئام مع الولايات المتحدة.
لذلك فإن الانفتاح الصيني على الدول العربية، من منظور أوسع وأعمق، يحمل أبعاداً شديدة الأهمية والحساسية بالنسبة لعلاقات بكين مع الدول الإقليمية في المنطقة وكذلك المعنية بها من خارجها، وهي بشكل محدد إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
فقد أصبحت بكين مؤخراً تواجه مقارنة فرضها الواقع بين المصالح والارتباطات القائمة مع طهران، والمستقبل الواعد للعلاقات مع العواصم العربية المهمة، خصوصاً الخليجية.
ومن السهولة بمكان ملاحظة أن زيارة الرئيس الصيني للمنطقة تشير بوضوح إلى ميل دوائر صنع القرار في بكين إلى تغليب مصالحها الاقتصادية والجيواستراتيجية مع الدول العربية على تحالفها التقليدي مع طهران. فمصالح بكين مع العرب أكبر وأشمل مما هي مع طهران، ولم يكن تأخر تحقيق تلك المصالح وترجمتها في أطر تنفيذية إلا انعكاساً لتمسك الصين لعقود على علاقاتها وتحالفاتها خارج محيطها الإقليمي المباشر، بالروابط الاقتصادية حصرياً. والنأي عن أية مشكلات أو تحالفات ذات طابع سياسي.
لكن ظهرت مستجدات غيرت كثيراً من الثوابت الصينية في السياسة الخارجية. كان أولها العولمة التي جعلت من الصعب الفصل بين المسارات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية وغيرها. كما كان لتطوير الصين رؤيتها للعالم وتبنيها مشروع "الحزام والطريق" دور كبير وجوهري في حسابات حركة بكين الخارجية بمنظور مختلف، خصوصاً في الدول الواقعة على مسارات المشروع. إذ لا استثمار فيها ولا تجارة معها، إلا بتوافر حد أدنى من الاستقرار في مختلف أوجه ومجالات الحياة سواء داخل تلك الدول، أو فيما بينها إقليمياً.
على الجانب العربي، أصبح من المؤكد أن معظم إن لم تكن كل الدول العربية، تباشر مراجعة فعلية لعلاقاتها الخارجية ولسياساتها خصوصاً تجاه القوى الكبرى في العالم. ولم يعد سراً أن دول المنطقة وصلت إلى قناعة بأن الرهانات السابقة على الدور الأمريكي في حفظ الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، لم تكن ناجحة، لأسباب أمريكية بالأساس. بينما ظل العرب عقوداً طويلة يتطلعون إلى ترجمة التفاهم والتنسيق مع واشنطن في الرؤى والمبادئ، إلى إجراءات وتحركات تنفيذية قابلة للتطبيق وتساعد بالفعل على تحسين أوضاع شعوب المنطقة وحل مشكلاتها وتسوية نزاعاتها، دون تحيز لطرف أو إغفال لقضية أو تجاهل للواقع.
وهناك نقطة مهمة في تقييم التقارب العربي-الصيني في سياق العلاقات العربية مع القوى الكبرى. فالمراجعة التي تقوم بها الدول العربية في علاقاتها مع الدول الكبرى، قد تبدو للبعض غريبة، بينما للولايات المتحدة الأمريكية نفسها علاقات قوية مع الصين. إلى حد يجعل الدخول في نزاع حقيقي أو مواجهة عنيفة بينهما شبه مستحيل على أي مستوى، لا سياسياً ولا اقتصادياً وبالطبع ولا عسكرياً.
بل إن الاقتصادين الأمريكي والصيني أصبحا مرتبطين معاً إلى حد كبير، وتحديداً بسبب ضخامة التبادلات التجارية وتداخل محتواها السلعي والخدي بشكل يصعب تفكيكه أو تعليقه.
فإذا كان هذا هو الحال بين أكبر اقتصادين متنافسين وأشد دولتين عداوة سياسياً في العالم، فإن الأولى بذلك الدول العربية التي تفرض أوضاعها الداخلية والإقليمية التفاعل والتعاون والدخول في شراكات متنوعة وإقامة منظومات متعددة للتعاون والتنسيق مع كل القوى الكبرى في العالم دون استثناء لهذه أو أفضلية لتلك، بمعايير موضوعية وعملية، وفقاً للميزة النسبية لكل منها والمصالح المتحققة معها.
نقطة أخيرة، الولايات المتحدة الأمريكية التي طالما راهن العرب عليها، تبتعد عن قضايا المنطقة وتتجه شرقاً لمواجهة الصين، فيما الصين العملاق العالمي الجديد، تتجه إلى الشرق الأوسط وتقبل عليه برغبة كبيرة من التعاون والشراكة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة