الفن التشكيلي الصيني.. حينما يستلهم الفنان روح التراث والمجتمع
مر الفن الصيني المعاصر بـ4 مراحل مهمة شكلت تطور المدارس الفنية التشكيلية فيه ومثلت انعكاسا لتاريخ الصين الحديث.
مر الفن الصيني المعاصر بأربع مراحل؛ الأولى منذ عام 1976 إلى عام 1984، والثانية منذ عام 1985 إلى عام 1989، والثالثة حقبة التسعينيات من القرن الماضي، والرابعة من تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم.
اليقظة
في نهاية سبعينيات القرن العشرين خمدت نيران "الثورة الثقافية"، التي كانت مرحلة مهمة في تاريخ الصين الحديث. بعدها انتهجت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح، وشرعت تصحح أخطاء الماضي، وطرحت شعار "طلب الحقيقة من الواقع". لا ريب أن هذا الوضع الجديد وفر فرصة جديدة لتطور الصين.
الوضع الجديد في الصين شكل حافزا للفنانين لأن تعبر أعمالهم الفنية عن واقع الحياة، وبمعنى آخر تكون بمثابة مسح يقوم به الفنانون للحياة الواقعية، بيد أن جامعات ومعاهد الفنون الجميلة، في ذلك الوقت، كانت لا تزال تحت السيطرة الصارمة لنزعة الثمانينيات الأكاديمية، مما فرض قيودا على فردية وشخصانية الفنانين.
غير أنه مع تواصل مسيرة الإصلاح والانفتاح، راح الفن المعاصر الغربي يطرق أبواب الصين، وأقيم منذ عام 1979 في المعرض الصيني للفنون الجميلة العديد من المعارض للوحات الغربية المعاصرة، وعليه فإن الجمهور الصيني الذي يعرف عددا محدودا من الفنانين السوفيت الشبان، والذي اعتاد اللوحات الدعائية في عشرات السنين الماضية، توفرت له رؤية جديدة ومشاهد لم يألفها من قبل.
شرع الفنانون الصينيون يستفيدون في ممارساتهم الفنية من الأسلوب الغربي الحديث، وظهرت أشهر لوحة للرسم الزيتي في تلك الفترة، بعنوان "الأب" التي أبدعها الفنان لو تشونج لين سنة 1980.
تصور "الأب" وجها تغضن بفعل قسوة الحياة ومرارة العيش لرجل يحمل بيديه الخشنتين سلطانية قديمة مملوءة بماء أصفر عكر.
وظف الفنان الألوان الطبيعية والرسم من الواقع للفن الفوتوغرافي الأمريكي لتصوير فلاح عجوز عادي معوز، فجاء العمل مناقضا تماما لأسلوب التعبير عن العظمة والسعادة والجمال الذي كان سائدا في فترة الثورة الثقافية.
حول هذه اللوحة ومثيلاتها، قال الناقد الفني لي شيان تينج: "أهم خلفية للمجتمع الصيني كانت الثورة الاجتماعية وتحرير الفكر، بعد أن فتحت الصين أبوابها، واجهنا مشاكل جديدة كثيرة مثل الثروة والفقر، التقدم والتأخر، الجديد والقديم، وكان علينا أن نحرر أفكارنا لنلعب دورا حافزا إيجابيا للتغيرات الاجتماعية والسياسية. وكانت قيمة أعمال الفنانين الشبان أنها انطوت على نقد سياسي واضح ورؤية ثاقبة بعيدة، فقد كان هؤلاء الفنانون في طليعة حملة تحرير الأفكار، لذلك تتميز أعمالهم بروح التمرد والنظرة البعيدة معا".
الاختراق
في عام 1985 صارت البيئة الفنية أكثر ليونة، وكان الهدف النهائي للفنانين هو الابتكار وتحطيم كل القيود.
في شهر أبريل ذلك العام، أقيم معرض "شبان سلام العالم" للفنون الجميلة في بكين، ثم أقامت الحكومة معرض فنون جميلة بعنوان "شباب الصين يتقدم" في مايو/أيار، وبدأت أوساط الفن في الصين تنتعش.
أما الحدث الأكثر تأثيرا ونطاقا فكان مناقشة فنية ساخنة بدأها طالب الدراسات العليا لي شياو شان في مقال له بعنوان "آرائي في الرسم الصيني"، وبتشجيع من هذه الحرية وروح الابتكار ظهرت على التوالي 90 مجموعة فنية منذ عام 1985 إلى عام 1987، وأقيمت 150 فعالية فنية اشترك فيها أكثر من ألفي فنان، من أشهرها "مجموعة الشمال الفنية"، "مجموعة البحوث الفنية لجنوب غربي الصين" في مقاطعة سيتشوان و"دادا شيامن" بمقاطعة فوجيان، شكلت أعمالها الضخمة ومفاهيمها الجديدة موجة فنية للشباب، سميت "التيار الجديد 85" في تاريخ الفن الحديث، ما كان صدمة للتقاليد والمفاهيم والأساليب القديمة.
كانت معارض الفنون الجميلة التي تنظمها الجهات الحكومية تسيطر على "حق الكلام"، وكان "التيار الجديد 85" يعارض هذه الأحادية والاستبداد، ولم تستطع أعمال عدد كبير من الفنانين الشباب اقتحام تلك المعارض، فانتظروا للحصول على حق الكلام واعتراف المجتمع بأعمالهم على أمل القيام بإصلاح اجتماعي لتحقيق نهضة فنية في الصين.
بعد مرور عشرين سنة على هذا التيار، البعض شبهه بالنهضة الفنية الأوروبية في القرون الوسطى.
في بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان شيوي بينج وغيره من الفنانين الكبار حاليا، خريجين جددا في جامعات الفنون الجميلة، وأصبحوا القوة الرئيسية في"التيار الجديد 85". هم من مواليد الخمسينيات، وحصلوا على المعارف الفنية الغربية بسهولة، فأحسوا أن الصين ليست مثل الدول الأوروبية والأمريكية في الفن، واعتقدوا أن جوهر العلاج لهذا هو الحرية والشخصية التي يتميز بها الفن الغربي الحديث.
في أول يناير/كانون الثاني سنة 1988 وقع حادث كان رمزا لواقع البيئة الاجتماعية الصينية في ذلك الوقت، فقد تقرر اعتبارا من ذلك اليوم فتح برج بوابة تيان آن من، الذي يرمز للسلطة والتاريخ، أمام الجمهور لأول مرة، فصار هذا المعقل التاريخي والسياسي الذي حرمت الناس من دخوله زمنا طويلا، موقعا سياحيا مفتوحا. الأمر الذي زلزل المفاهيم الاجتماعية، وهيأ بيئة تتيح للفنانين التعبير عن شخصيتهم.
الحافة
شهدت الصين اضطرابات اجتماعية عام 1989، قال عنها الناقد الفني لي شيان تينج: "بعد سنة 1989 خاب أمل المثقفين الصينيين في حل المشاكل الصينية بأسلوب الحداثة الغربي، فشرعوا يرون المشاكل الصينية، وخاصة بيئة حياة الصينيين، انطلاقا من الواقع. كانت بيئة حياتنا في ذلك الوقت مضطربة، حيث حطمت المعايير القديمة، ولم تظهر بعد معايير جديدة. في تلك البيئة كان كل فرد يواجه عالما معنويا محطما، والكل يشعر بالحيرة. وقد عبر الفن الصيني في بداية وأواسط تسعينيات القرن الماضي عن هذه الخلفية".
معظم الفنانين الذين نهضوا في التسعينيات من مواليد حقبة الستينيات، وتخرجوا في الجامعات في نهاية الثمانينيات، ولهذا فإنهم جاءوا جيلا مختلفا كثيرا عن فناني الفترات السابقة، إذ تركوا المثالية والبطولة التي كانت سائدة في الفن قبل هذه الفترة، وبدأوا يعبرون عن لقطات مجهولة ومملة ومفاجأة بل وسخيفة من الحياة بأسلوب فكاهي. وقد اعتبر ظهور الفن الجماهيري popular art في هذه الفترة رمزا هاما للتحول في تاريخ الفن، أي التحول من اهتمام الفنانين بالفن والأفكار الغربية الحديثة إلى الاهتمام بحياة الصينيين الحقيقية. التعبير عن الأحوال السياسية والاجتماعية بأسلوب ساخر أحد رموز بداية طريق الفن الصيني الحديث.
تماشيا مع هذا التغيير ظهرت قرية للرسامين بجانب حديقة يوان مينج يوان، التي كانت أعظم حديقة إمبراطورية في الصين وأحرقتها الجيوش البريطانية والفرنسية الاستعمارية عام 1858. ابتداء من التسعينيات، استقال كثير من الفنانين من أعمالهم الحكومية، وانتقلوا إلى تلك القرية لإبداع الرسم، فبلغ عدد الرسامين فيها ذروته عام 1994.
هذه الظاهرة كانت مشابهة لما حدث في بعض الدول الغربية، ففي لندن قرية تشيلسي Chelsea يوجد بها حاليا قرية هوكستون Hoxton الفنية، وفي نيويورك ازدهرت قرية جرينوتش Greenwich التي خرج منها كثير من الفنانين الكبار. ظهر في قرية يوان مينج يوان الفنية عدد كبير من كبار الفنانين مثل دينج فانج وفانج لي جيون.
عن أيامه في تلك القرية قال الفنان الشهير فانج لي جيون، إنهم ابتكروا أسلوب النظر بسخرية إلى الحياة، وحظي بالاعتراف في العالم. اشترك فانج لي جيون في بينالي فينيسيا سنة 1993، ثم أصبح شخصية لغلاف أحد أعداد مجلة "نيويورك تايمز". الآن لم يعد فانج لي جيون يعيش في القرية وإنما يمارس فنه في استوديو خاص له.
في أواسط وأواخر التسعينيات بدأ الفنانون يعرفون كيفية الجمع بين العمل الأكاديمي وممارسة التجارة. عندما ارتفعت أسعار العقارات المجاورة لحديقة يوان مينج يوان، وازداد عدد السياح الذين يزورون الحديقة، تركها الفنانون. بعد ذلك ظهرت في بكين قرية سونجتشوانج الفنية ومنطقة 798 الفنية ومنطقة شانجيوان وتجمع بينخه وقرية فيجيا وغيرها من تجمعات الفنانين الذين بدأوا السير على طريق العمل الاحترافي وظهرت فجوة بين الأثرياء منهم والفقراء.
الازدهار
عملية الإصلاح والانفتاح في الصين جعلتهم في الغرب يهتمون بالفن الصيني الحديث. في بداية التسعينيات ظهر في سوق الفن الصينية الراكدة، جاليري البوابة الحمراء وجاليري شيانجقهنا وغيرهما من معارض الفن التي أقامها أجانب. بعد 10 سنوات من الكد والاجتهاد، حققت تلك المعارض حصادا وافرا مع ارتفاع حرارة جمع الأعمال الفنية والاستثمار فيها بالصين.
ثمة 4 ظواهر تعكس الازدهار السريع للفن الحديث في القرن الحادي والعشرين بالصين: أولا، كثرة المعارض، ثانيا، رواج أعمال المعارض الفنية، ثالثا، تدفق الرأسمال العالمي والمؤسسي، رابعا، ازدهار المزاد.
قبل فترة ليست بعيدة، سجلت أعمال الفن الصيني الحديث أرقام مبيعات قياسية في دار بالي للمزادات، فقد بيعت لوحة "القناع رقم 14" للفنان تسنج فان تشي بثمانية ملايين وثمانمائة ألف يوان (الدولار الواحد يعادل 1ر7 يوانات)، أي ثمانية أضعاف السعر المتوقع؛ وسجلت"سلسلة المثليين: الرجال" للفنان تشانج شياو قانج رقما قياسيا للأعمال الصغيرة، فقد بيعت بمليون وستة وسبعين ألف يوان، ثم حطم عمله الآخر "سلسلة المثليين: النساء" هذا الرقم القياسي، إذ بيعت بمليون وتسعمائة وثمانين ألف يوان. وعرض عمل للفنان ليو يه بعنوان "السفينة القيادية الضخمة" في البداية بمليون ومائتي ألف يوان وبيع بتسعة ملايين وثلاثمائة وخمسين ألف يوان، وبيع عمل للفنان شي تشونج بعنوان "المناظر اليوم" بست عشرة مليونا وخمسمائة ألف يوان.
مذهب الحداثة في الفن الصيني بدأ بالتعلم من محاكاة الغرب أثناء تطور الفن الصيني المعاصر، ولكن نظرا لقوة الثقافة الغربية سيطر الفن الغربي على الفن المعاصر الصيني. ومن ناحية أخرى، أصبح موقف الحكومة تجاه الفن المعاصر أكثر ليونة في السنتين الأخيرتين، فتحول الفنان من "طفل مفعم بروح التمرد والاستقلال" إلى "طفل مدلل"، ومن الصعب حاليا أن نعثر في أوساط الفن الصيني المعاصر على فنانين بارزين يعبرون عن الواقع الاجتماعي بروح فنية مستقلة. لذلك نقول إن الفن الصيني المعاصر وصل مرحلة التنظيم وإعادة التفكير في كيفية تطوره. وقد نبه الفنان الكبير شيوي بينج إلى أن الفنانين الصينيين حاليا يسترجعون تجربة ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي يعني أنهم يعودون إلى نقطة بدء الفن الصيني المعاصر للتفكير في مستقبل هذا الفن.
وقال البروفيسور قاو مينج لو، الذي يعمل بالتدريس ويقوم بتنظيم معارض للوحات في الولايات المتحدة حاليا: "من الضروري أن نبحث عن الروح الثقافية الإنسانية. أحلم بأن يكون الفن الصيني المعاصر ليس مجرد معروضات وبضائع وإنما يكون مجالا يؤثر إيجابيا في الثقافة الصينية والعالمية مثل العلوم والأديان والفلسفة".