النموذج الحضاري الذي انتهجه الإماراتيون لهو خير مثال على هذا الإمكان، إذ ابتنوا في قلب الصحراء واحة خضراء
منذ أقدم العصور، لعب تجّار الأديان، بعواطف الناس البسطاء التواقة إلى ملامسة أثر القداسة في واقعها الحي، أملاً في استجلاب خيرٍ أو دفع بلاءٍ، حتى ترسّخت تلك الممارسة في التراث البشري عموماً، لكونها تلبي احتياجات العوام من جهة؛ وتضمن مردوداً اقتصادياً للقائمين على هذه الممارسات الكهنوتية من الجهة المقابلة.
الإنسان العربي المسلم أثبت أنه قادرٌ حال توفرت لديه الإرادة والعزم، على امتلاك حوزاته الحضارية الخاصة التي تجعل منه إنساناً حقيقياً قلباً وفكراً، روحاً وجسداً، ينتمي لعصر العلم والأنوار، ويكون مشاركاً حقيقياً في مجريات العالم من حوله، لا مجرد راقص أو منشد أو طبال في دهاليز الظلام والأحلام.
وإذا كانت "الحوزة" لغة تعني كل ما يحوزه المرء من ملكية ذات قيمة عالية الشأن، فإنها بالاصطلاحات الدينية تعد إرثاً قدسيّاً تُراق لأجله الدماء وتُنشأ فوقه طبقاتٌ من الحرّاس والحلاّس، المنقسمين بين حارسٍ مؤمنٍ بقيمة ما يَحرس، وحارسٍ لا يعلم ماذا يحرس.
ليس أدلّ على ذلك من تلك النزاعات الدينية التي نشبت في أوروبا طوال القرن السادس عشر، إبان الصراع الديني بين المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي، حيث كشفت الحملات التي قام بها هنري الثامن في فرنسا، ونهب خلالها "الحوزات" الكنسية التابعة للفاتيكان، عن وجود الكثير من المقتنيات الدينية المُزيّفة التي كانت تستدر جيوب الرعية المؤمنة، منها ما هو على شكل عظام منسوبة لأحد القديسين القدماء، إلى مسامير وقطع أخشاب قيل إنها جاءت من الأراضي المقدسة لمهد المسيح.. حيث اعترف بعض الكهنة تحت التعذيب بزيفها.
تركيا اليوم بصفتها وريثاً للعهد البيزنطي، تحذو بذات الاتجاه، غير أنها بحوزاتها المزعومة، لا تسعى فقط لاستدرار أموال المسلمين عبر السياحة الدينية فحسب، بل ولتثبيت نفسها كمرجعية كبرى للإسلام، سواء بزعمها حيازة آثار ومقتنيات شخصية تعود للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أم مخطوطات لأقدم المصاحف، وصولاً لزعمها (غير العلمي) الأخير بالعثور على سفينة نوح المستقرة فوق جبال أرارات، وقد اعتبرتها الحكومة التركية كنزاً وطنياً وسياحياً ثميناً، رغم أن العديد من الجيولوجيين والرحالة المستكشفين زاروا الموقع ولم يجدوا سوى حطام من صخور بركانية مُتشكّلة على نحو أخشاب.
ولا تخلو جعبة إيران من أسلحة تخوض بها غمار هذا التنافس المحموم بالجهل والتجهيل، عبر مزاعمها بامتلاك أحواز وعتبات شريفة هنا وهناك، تعود لنسل الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأحواز العلمية التي لا تجد بها أثراً للعلوم.
لست أدري مع هذا الكم الهائل من المزاعم والادّعاءات، والسعي نحو تجسيد بنى المقدسات التي تتنافى وروح الإسلام السمح الذي جاء ليقضي أصلاً على تلك الأصنام، ويؤسس لمجتمع عقلاني مستنير، يجافي الخرافة والكهنوت وأساطير الأولين، وكيف ما زال البعض يتعلق أو يصدق مثل تلك الخزعبلات، في حين أن الإنسان العربي المسلم أثبت أنه قادرٌ حال توفرت لديه الإرادة والعزم، على امتلاك حوزاته الحضارية الخاصة التي تجعل منه إنساناً حقيقياً قلباً وفكراً، روحاً وجسداً، ينتمي لعصر العلم والأنوار، ويكون مشاركاً حقيقياً في مجريات العالم من حوله، لا مجرد راقص أو منشد أو طبال متسربل في دهاليز الظلام والأحلام.
هذا النموذج الحضاري الذي انتهجه أشقاؤنا الإماراتيون لهو خير مثال على هذا الإمكان، إذ ابتنوا في قلب الصحراء واحة خضراء وأسطورة مدنية تُعانق سُحب السماء، وقِبلةً سياحية لكل حالمٍ بالحداثة والسعادة والثراء، بعيداً عن كل ما من شأنه أن يمتهن كرامته ويحيد إرادته أو يحط من قدره إزاء إرث القدماء، ودون أن يزعم أيٌ من أبناء الإمارات أو ساستها أن حوزته الحضارية التي أقامها بأيديه واقعاً لا خيال، قد تحققت بفضل بركات "الولي" فلان، أو الإمام والمرشد "علان"، فسبحان من أعمى بصائر بعض الإخوان عن حوزة هذا الزمان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة