تعقد قمة المناخ وسط أزمة كبيرة في الطاقة في كل من القارة الأوروبية والقارة الآسيوية.
ولم تقتصر هذه الأزمة على نوع محدد من الطاقة، بل أدت إلى أزمة شاملة، أعادت الاعتبار للوقود الأحفوري مرة أخرى، وبينت أن العالم ربما كان متعجلا أكثر من اللازم في الدعوة للتخلص من الوقود الأحفوري والاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.
فقد ثبت أولا أن مصادر الطاقة المتجددة لا يمكن الاعتماد عليها بثقة، فقد أدى انخفاض قوة الرياح، على سبيل المثال، إلى خفض إنتاج الكهرباء من الرياح في القارة الأوروبية خلال فصل الصيف.
أضف إلى ذلك أن انخفاض المخزون من الغاز بشدة لدى بلدان أوروبا وقبيل فصل الشتاء البارد أدى إلى زيادة الطلب على الغاز، مما رفع أسعاره ارتفاعا صاروخيا، فكان أن لجأت العديد من البلدان في آسيا وأوروبا إلى العودة لاستخراج الفحم واستخدامه.
ومن المعروف أن الفحم هو من أكثر المصادر تلويثا للبيئة، وكان الهدف العاجل من قبل العديد من الأطراف، خاصة في أوروبا، هو التخلص نهائيا من استخدام الفحم، وربما يكون هذا أيضا من الأهداف التي ستسعى لها قمة جلاسكو للبيئة.
وقد ترتب على العودة لاستخدام الفحم بكثافة مرة أخرى أن ارتفعت أسعاره هو الآخر ارتفاعا صاروخيا إلى جانب الارتفاع في أسعار الغاز الطبيعي، ما أدى إلى تقدير البعض إلى أنه سيكون هناك إحلال من الغاز إلى منتجات النفط، خاصة إذا ما أتى فصل الشتاء قارس البرودة.
ويقدر وزير الطاقة السعودي على سبيل المثال مقدار الإحلال في الطلب بما يتراوح بين 500 ألف و600 ألف برميل يوميا.
والنتيجة التي وصلنا إليها الآن مع أزمة الطاقة في أوروبا وآسيا هي عودة عاجلة لمحاولة تدارك ما حدث مع أسواق وشركات النفط التي ارتفعت أسعار أسهمها مع الزيادة الملحوظة في أسعار النفط.
فصناديق الاستثمار التي قضت سنوات عدة في تخفيض تعرضها لأسهم شركات النفط والغاز بسبب الاتجاه لتخفيض انبعاثات الكربون، تسعى جاهدة نحو العودة لأسهم شركات الوقود الأحفوري.
وكشفت وكالة رويترز الأسبوع الماضي عن أن التخصيصات لأسهم قطاع الطاقة من مديري الصناديق كسبت 23 نقطة مئوية خلال الشهر الماضي، مع تجاوز أسهم قطاع الطاقة لمؤشر ستاندرد آند بورز للأسهم، حيث سجلت ارتفاعا بلغ 53.8% مقارنة بارتفاع بلغ 20.2% فقط في المؤشر ككل.
وحسب رويترز فقد فاجأ الارتفاع في أسعار أسهم القطاع مديري الصناديق.. ويرجع هذا إلى أن العديد من المديرين توقعوا أن الاتجاه نحو خفض الانبعاثات سوف يقوى وينمو دون انقطاع.
وكان هناك سبب قوي أيضا لمثل هذا الاعتقاد، وهو أن مديري الأصول الذي يتحكمون بتريليونات الدولارات من الأصول وغيرها من مؤسسات المستثمرين الكبيرة، التزمت بسياسات صفر انبعاثات بالنسبة لهم ولعملائهم.
ومع هذا، فالحقيقة الواضحة هي أنه يبدو أن هناك مستقبلا وعودة للوقود الأحفوري، خاصة مع تزايد الطلب على الطاقة مع اقتراب دخول نصف الكرة الشمالي في فصل الشتاء البارد.
وقد أدت أزمة الطاقة الراهنة إلى مراجعة عاجلة للطلب على النفط والغاز من قبل جميع المحللين الذين يتوقعون مستويات الطلب والعرض، بل وإلى نداءات من أجل المزيد من الاستثمارات في إنتاج النفط والغاز من قبل بعض الأطراف، بما في ذلك جهات مثل وكالة الطاقة الدولية، التي دعت في وقت سابق من هذا العام إلى التوقف نهائيا وفورا عن مثل هذه الاستثمارات من أجل الوصول إلى هدف صفر انبعاثات كربونية.
وقد دعت منظمة "أوبك" بدورها إلى المزيد من الاستثمارات في قطاع النفط والغاز لملء الفجوة بين العرض والطلب.
فعودة الاستهلاك العالمي للارتفاع وسط تقييد في العرض جاء خلافا لما كانت قد توقعته العديد من التقديرات خلال العام الماضي، والتي أوضحت أن الطلب على النفط قد وصل إلى الذروة وبعد سنوات من القصور في الاستثمارات في الإنتاج في أعقاب الانخفاض في أسعار النفط في عام 2015، مما أدى إلى قيام بنوك وول ستريت برفع توقعاتها لأسعار النفط في المدى القصير والمدى المتوسط.
وقد سجلت أسعار النفط مؤخرا أعلى مستويات لها منذ عام 2014 بالنسبة لخام غرب تكساس الوسيط ومنذ أكتوبر 2018 بالنسبة لخام برنت.
ويشير العديد من المحللين والمؤسسات إلى أنه بعد هذا الارتفاع الأخير في الأسعار ما زال هناك مجال أمام المزيد من الارتفاع مستقبلا.
فبنك جولدمان ساكس على سبيل المثال، يرى أن خام برنت سيصل إلى 90 دولارا للبرميل مع نهاية هذا العام، ارتفاعا من 80 دولارا كان البنك قد توقعها في تاريخ سابق.
والعامل الأهم وراء توقع جولدمان ساكس لأسعار أكثر ارتفاعا، هو العودة القوية للطلب على النفط وسط ضعف ملحوظ في استجابة العرض من البلدان خارج مجموعة أوبك+.
ويرى البنك أيضا أن أسعار النفط المرتفعة ستستمر خلال السنوات المقبلة، فالعوامل الأساسية بنظر البنك تدفع نحو هذا الارتفاع لتبقى الأسعار في حدود 85 دولارا للبرميل.
وخلال الأسبوع الماضي رفع بنك مورجان ستانلي من توقعه لأسعار النفط في المدى الطويل بنحو 10 دولارات للبرميل لتصل إلى 70 دولارا.
ويتوقع بنك بي إن بي باريبا أن أسعار النفط ستكون في حدود 80 دولارا للبرميل في عام 2023، ويرى يو بي إس أن أسعار النفط ستظل مرتفعة خلال العام المقبل مع بقاء السوق مقيدة على الأقل حتى الربع الأول من عام 2022، وذلك نتيجة لمستوى المخزونات المنخفض في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لأقل مستوى لها منذ عام 2015، وذلك في ظل الزيادة التدريجية في الإنتاج التي ينتهجها تحالف أوبك+، وتسجيل مستوى الطلب لنحو 100 مليون برميل يوميا في ديسمبر من العام الحالي.
ويرى محللو بنك يو بي إس أنه سيتم تداول النفط من نوع برنت الخام عند مستوى 90 دولارا للبرميل في ديسمبر 2021 حتى مارس من العام المقبل 2022، قبل أن ينخفض قليلا ليتم تداوله عند 85 دولارا للبرميل لبقية العام المقبل، بالإضافة إلى توقعهم استمرار ارتفاع الطلب على النفط مع بقاء العرض قاصرا وراء هذا الطلب، وهو ما يرجع بشكل رئيسي إلى انخفاض الاستثمارات والضغط على شركات النفط الكبرى لخفض الانبعاثات وخفض الاستثمارات في المزيد من الإنتاج.
وترى مؤسسة موديز أن الإنفاق في عمليات الاستكشاف والحفر ينبغي أن يزيد بنسبة تصل إلى 54% ليبلغ 452 مليار دولار، فيما لو كان على سوق النفط أن تتجنب أزمة النقص في العرض التالية.
ويقول أحد مسؤولي موديز "إن تحليلنا يوضح أن عمليات شركات المنبع بحاجة إلى أن يزداد الإنفاق عليها بشكل ملموس من أجل المدى المتوسط، لكي يمكن الإحلال محل المخزونات ولتجنب أي نقص مستقبلي في الإنتاج".
من الواضح إذا أن صناعة النفط تعاني بشدة نقص الاستثمارات في العرض لكي يقابل النمو المتزايد في الطلب، الذي من المتوقع أن يعود لمستوى ما قبل تفجر الجائحة مع نهاية عام 2021 أو بداية عام 2022.
وخلال العام الماضي هبط الاستثمار في عمليات المنبع على المستوى العالمي إلى أقل مستوى له خلال 15 عاما ليبلغ 350 مليار دولار فقط، طبقا لتقديرات مؤسسة وود ماكينزي.
والنتيجة التي يمكن أن نخلص إليها أن العالم ما زال بحاجة إلى أنواع الطاقة كافة، خاصة الوقود الأحفوري، وبشكل أخص النفط والغاز، ربما لعقود عدة قادمة، إذ يبدو أنه في ظل شعارات براقة مثل خفض مستوى الانبعاثات الكربونية بسرعة، دخل العالم في أزمة طاقة شديدة نتيجة نقص الاستثمارات في النفط والغاز.
وتعد هذه الأزمة كاشفة عن التسرع في تبني هذه الشعارات دون تقدير حقيقي لطبيعة الموارد ومدى كفايتها، وهو ما أدخل أوروبا وآسيا في أزمة طاقة مستحكمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة