يوما تلو الآخر يتبدى للعقلاء على كوكبنا أن هناك حالة من الانفلات الجنوني والنرجسية غير المستنيرة يتعامل بها البشر مع الطبيعة.
انطلقت في العاصمة الإسبانية مدريد أعمال قمة "كوب 25" الذي ترعاه الأمم المتحدة، من أجل صيانة المناخ العالمي، وسط دعوات لاتخاذ تدابير سريعة، للحد من ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية.
أفضل تعبير يمكن للمرء أن يستمع إليه على هامش أعمال القمة هو ما جاء به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، الذي دعا إلى وقف الحرب البشرية ضد الطبيعة، محذراً من أن الأرض "ترد" بكوارث طبيعية أكثر فتكاً.. ماذا عن تلك الردود التي تجعل من حياة الجنس البشري على الكوكب الأزرق أمراً مهدداً بالفناء؟
لن يتم إنقاذ أمنا الأرض إلا بتغيير ذواتنا وتطورها وفقاً لمعيار احترام الخليقة وخالقها، والتنبه لأن فكرة إخضاع السياسة للتكنولوجيا والمال أدى من قبل إلى فشل كل قمة عالمية حول البيئة.
الشاهد أنه غير خاف على إحدى الحالات المتردية التي وصلت إليها شؤون المناخ حول الكرة الأرضية، ما يجعل من التطورات المناخية أخطر على سكانها من القنبلة الذرية، فعلى سبيل المثال يكفي أن الاحتباس الحراري ومع تصاعده الفتاك سيؤدي إلى ذوبان الأقطاب الجليدية، وحدوث موجات التسونامي الهادرة، ناهيك عن جفاف الأرض، وندرة المحاصيل، وما يلي ذلك من هجرات غير شرعية، وحروب على مصادر المياه.. إنها نهاية فعلية للنوع الإنساني واردة الحدوث.
ما هو السبب الرئيسي الذي أدى بالخليقة إلى هذا الوضع المتردي والمرشح للمزيد من التدهور طالما بقيت التوجهات الحكومية العالمية أسيرة البراجماتيات الصناعية والمالية قصيرة إلى حد معدومة النظر؟
أغلب الظن أن إشكالية الإفراط في مفهوم "المركزية الإنثروبية"، هو السبب الأول، والمصطلح يعني تمحور الإنسان حول ذاته لا حول الطبيعة، فالكائن البشري في حاضرات أيامنا لم يعد يعرف مكانته الصحيحة في هذا العالم، وبات يتخذ مواقف تدور حول نفسه، يتمحور من حولها حصرياً، وعلى سلطته يعتمد، ويتمخض عن ذلك منطق "استعمل وألق".
المركزية الإنسانية المعاصرة تبرر كل نوع من أنواع الإقصاء، بيئياً كان أم بشرياً، فلم يعد الآخر هو شريك في الكون يجب أن يحافظ عليه، بل ما يهم هو المصلحة الشخصية والآخر هو سلعة معروضة للبيع والشراء في واجهات الشركات العابرة للقارات.
هل من مثل يبين لنا أبعاد الصراع البيئي العالمي المعاصر؟
خذ إليك ما يدور من حرب طاحنة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، فكلاهما ينظر للآخر على أنه المهدد الأكبر والرئيس لمكانته الصناعية والتجارية، وتالياً المالية حول العالم، وفي القلب من هذا الصراع لا يتورع عن استخدام الكربون من أجل تحقيق أكبر مكاسب مالية، مهما أدى هذا النوع من مولدات الطاقة إلى إصابة الطبيعة في مقتل، لا سيما أن الناتج الرئيسي لاستخدامه هو غاز ثاني أكسيد الكربون المهلك للزرع والضرع معاً.
هل تحدي المناخ الذي يواجه المجتمعين بشأنه في مدريد هذه الأيام هو تحدٍ سياسي فقط؟
أغلب الظن أنه تحدٍ متعدد الزوايا والأوجه، إنه تحدٍ إيماني قبل أن يكون انسانياً، تحدٍ يخص أتباع الأديان التوحيدية الإبراهيمية، بقدر ما هو موصول كذلك بأصحاب النواميس والشرائع الوضعية، إنه تحدٍ ديني بقدر ما هو تحدٍ سياسي ودولي بنفس وضعه كتحدٍ محلي.
أحد التحذيرات المثيرة للتفكير والمخاوف حول المناخ يجدها المرء محفورة على بوابة الشمس الأثرية التاريخية في المكسيك، التي تعود إلى أكثر من ستة آلاف عام خلت، وتنتمي ضمن آثار عديدة إلى حضارة "المايا والأزتيك"، وهي حضارة ضاربة في القدم.
التحذير يأتي من خلال إنسان يرتدي ملابس تشابه إلى حد التطابق ملابس عصرنا الحالي، بل أكثر من ذلك إذ يضع على عينيه نظارة شمسية، كتلك التي لا نزال نرتديها، ونص التحذير من انفجار كوني يحدث على سطح الكوكب من جراء اللعب بالنار.
يوما تلو الآخر يتبدى للعقلاء على كوكبنا أن هناك حالة من الانفلات الجنوني والنرجسية غير المستنيرة يتعامل بها البشر مع الطبيعة، إنه ذات المنطق الذي يدفع البعض من معدومي الضمير لاستغلال الأطفال جنسياً، ولهجر المسنين الذين لا يخدمون المصالح الشخصية، إنه عين المنطق الذي يدفعنا في طريق المبالغة في تقييم قدرة السوق على تنظيم نفسها، وإلى ممارسة الاتجار بالبشر، والمتاجرة في جلود الحيوانات التي هي في خطر الانقراض، إنه منطق العديد من جماعات الإجرام المنظمة، والمتاجرين بالأعضاء والمخدرات، ومنطق التخلص من الأطفال الذين لا يلبون رغبة أهليهم.
الذين قدر لهم مشاهدة حرائق غابات الأمازون قبل عدة أشهر يدركون إلى أي حد ومد بلغ الجشع الإنساني تجاه الطبيعة، إذ ليس سراً أن هناك من أشعل تلك المساحات الكبيرة من الغابات المعتبرة رئة الكرة الأرضية، وذلك بهدف توفير أخشاب لصناعات بعينها، عطفاً على توفير مناطق لرعي الماشية، وكلاهما لوبي فاعل وناجز بل مخيف يعرفه سكان تلك المناطق.
سوف يذكر التاريخ إما بالمدح أو قدح رؤساء وزعماء العالم المجتمعين في مدريد، اليوم، لا سيما حين يتساءل مستقبلاً عن مدى مسؤوليتهم التي تصدوا لها أو تخلوا عنها، بالنسبة للأجيال القادمة.
لن يتم إنقاذ أمنا الأرض إلا بتغيير ذواتنا وتطورها وفقاً لمعيار احترام الخليقة وخالقها، والتنبه لأن فكرة لإخضاع السياسة للتكنولوجيا والمال أدى من قبل إلى فشل كل قمة عالمية حول البيئة، ولم يلتفت أحد للأصوات النزيهة المجردة عن الهوى الداعية لاستخدام الطاقة القابلة للتجديد عوضاً عن الفحم، ولا أقام أحد وزناً للتصريحات الأخلاقية والإيمانية التي لفتت الانتباه إلى أنه على البلدان الثرية أن تسدد دينها البيئي للآخرين، وأنه يمكنها التضحية عبر خفض القليل من نفوذها، وكذلك إيجاد رؤى لتشارك موارد الخليقة بصورة عادلة، لا سيما المياه النظيفة.
من ينقذ البيت المشترك، قبل أن يصبح الراحل كوكب الأرض؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة