تعد مسألة احترام ترامب لقواعد ممارسة الديمقراطية من أكثر المسائل التي تؤثر على مصداقيته وشرعيته منذ أن تولى الحكم.
يشهد المجتمع الأمريكي هذه الأيام حالة من الاستقطاب السياسي الحاد بين البيت الأبيض ومجلس النواب، وبين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول موافقة مجلس النواب في 29 سبتمبر الماضي على بدء إجراءات التحقيق في عزل الرئيس ترامب بسبب المكالمة التليفونية التي أجراها مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وطلب فيها منه إعادة فتح التحقيق في أنشطة شركة "بوريسما" التي كان نجل نائب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن أحد أعضاء مجلس إدارتها بمرتب خمسين ألف دولار شهريا، كما طلب منه فحص الأسباب التي دعت الرئيس الأوكراني السابق إلى عزل النائب العام الذي كان يحقق في الموضوع واستبداله بآخر.
من ناحيته، كان موقف ترامب أنه لم يرتكب أي خطأ دستوري أو قانوني وأن مُحاولة عزله هي "انقلاب على السلطة" و"خيانة للدولة" و"انتهاك للدستور"، وأن تصويت مجلس النواب على قرار العزل سوف يؤدي إلى "حرب أهلية". أما نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب فقد اعتبرت القضية مسألة مبدأ، وأن الرئيس ترامب قد انتهك الدستور وعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر، وأن الحزب الديمقراطي مستمر في إجراءاته حتى ولو كان الثمن فقدانه أغلبيته في مجلس النواب في الانتخابات التشريعية في 2020.
هل تقود الأحداث في الأسابيع والشهور المقبلة إلى كشف عن مزيد من المخالفات الدستورية التي ارتكبها سيد البيت الأبيض ومعاونوه ما يؤدي إلى عزله؟ أم يؤدي تحسن الأوضاع الاقتصادية إلى نمو شعور بالتعاطف معه ويفوز هو وحزبه في انتخابات 2020؟
وفي وسط أجواء الإثارة وتبادل الاتهامات, تختلط المبادئ بالمصالح الحزبية والشخصية وتضيع الحقيقة، فالدستور الأمريكي ينص في المادة 2 فقرة 3 على التالي "لمجلس الشيوخ وحده سلطة إجراء المحاكمة في جميع قضايا الاتهام النيابي" أي الاتهامات التي يوجهها الكونجرس ضد الرئيس ونائبه وكبار العاملين في السلطة التنفيذية، وفي حالة توجيه الاتهام للرئيس, وتتطلب إجراءات العزل قيام اللجنة القضائية في مجلس النواب بجمع الأدلة التي تثبت انتهاك الرئيس للدستور وإضراره بالمصالح العليا للبلاد، ثم يوافق أغلبية المجلس المكون من 435 عضوا على اقتراح العزل، ثم ينتقل الموضوع إلى مجلس الشيوخ الذي ينعقد في جلسة خاصة برئاسة رئيس المحكمة العليا لمحاكمة الرئيس، وبعدها يتم التصويت على القرار بأغلبية الثلثين أي 67 عضوا.
لذلك، فعلى مدى التاريخ الأمريكي لم يحاول الكونجرس عزل الرئيس سوى في ثلاث حالات وهي: أندرو جاكسون (الرئيس السابع الذي حكم خلال الفترة 1829-1837)، وريتشارد نيكسون، وبيل كلينتون. وباستثناء نيكسون الذي قدم استقالته عام 1974 قبل إجراء محاكمته، فإن الكونجرس لم يقم بعزل أي رئيس أمريكي.
وفي حالة ترامب, إذا كان الحزب الديمقراطي يمتلك الأغلبية في مجلس النواب (235 مقابل 199)، مع افتراض أن جميع النواب الديمقراطيين سوف يتحدون في هذا الشأن، فإن الموقف يغدو أكثر صعوبة في مجلس الشيوخ الذي يتمتع فيه الجمهوريون بالأغلبية (53 مقابل 45 للحزب الديمقراطي ومقعدان لعضوين مستقلين يصوتان عادة في صف الحزب الديمقراطي). إذ يتطلب تمرير قرار العزل أن يتخلى 20 عضوا جمهوريا عن تأييدهم للرئيس، وهو أمر يبدو لأول وهلة بالغ الصعوبة.
يقول أنصار الحزب الديمقراطي إن الرئيس ترامب ارتكب خطأ جسيما لقيامه بالضغط على الرئيس الأوكراني وحثه على التدخل في أعمال النائب العام والقضاء في بلده، وإن هدفه من هذا الإجراء كان هو تشويه صورة منافسه المحتمل، مرشح الحزب الديمقراطي، في انتخابات الرئاسة 2020، وإن ذلك يعني أنه استخدم سلطاته الرئاسية لتحقيق مصالح شخصية له ولحزبه، وشبهوا ما حدث بفضيحة واترجات Watergate في عهد الرئيس نيكسون, ونصح بعضهم أعضاء الكونجرس بالاستفادة من خبرة برلمان كوريا الجنوبية في عزل الرئيس.
ولأول وهلة فإن هذه المعلومات التي كررتها أجهزة الإعلام الأمريكية الكبرى والمؤيدة للحزب الديمقراطي تبدو واضحة ولا شبهة فيها. ولكنها لا تذكر النصف الآخر من الحقيقة وهي أن أمريكا وأوكرانيا وقعتا في عام 1998 اتفاقية لتبادل المعلومات في القضايا الجنائية وضمان احترام القانون، وصادق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي في 18 أكتوبر عام 2000. وحددت الاتفاقية الجهة المختصة بالتنفيذ في البلدين وهي وزارة العدل التي تقوم عادة باختيار النائب العام لممارسة هذا الاختصاص، كما أنها لا تذكر أن قادة الحزب الديمقراطي اتصلوا بأوكرانيا في عام 2016 مرتين للحصول على معلومات تدين المرشح الجمهوري ترامب، وأن جو بايدن نفسه ذكر في محاضرة له في مجلس العلاقات الخارجية في يناير 2018، أنه خلال عمله كنائب للرئيس في إدارة أوباما وتوليه ملف العلاقات مع أوكرانيا تدخل للضغط على حكومتها لإقالة النائب العام فيها. واتصالًا بذلك, ففي تصريح له بجريدة الديلي ميل البريطانية بتاريخ 11 أكتوبر 2019 وجّه جولياني اتهامًا لبايدن أنه تلقى مبلغ 900 ألف دولار من نفس الشركة الأوكرانية "بوريسما" مُقابل قيامه بممارسة أعمال ضغط lobbying لصالحها.
ويستخلص أصحاب هذا الرأي أن الرئيس ترامب لم يتجاوز سلطاته وأنه وجَّه هذا الطلب للرئيس الأوكراني في إطار الاتفاقية المبرمة بين البلدين، ولكن يرد على ذلك أن تدخل الرئيس شخصيا ليس أمرا طبيعيا، وأن الجهة المنوط بها في مثل هذا الأمر هو النائب العام الأمريكي أو وزارة العدل، ويزداد الأمر غرابة عندما يذكر الرئيس في المكالمة أن محاميه الشخصي رودلف جولياني سوف يقوم بمتابعة الموضوع مع المسؤولين في أوكرانيا.
المعلومات كثيرة ومختلفة ومتناقضة وتختلط الادعاءات والادعاءات المضادة، والمتابع للصحافة الأمريكية والحوارات التلفزيونية يجد فيها الشيء ونقيضه ويقوم كل طرف بالاستناد إلى معلومات وتسريبات تؤيد موقفه، فمن أين ينبغي أن نبدأ الحكاية؟ هل نبدأ من عهد إدارة أوباما وتدخل نائبه بايدن للتأثير على سير التحقيقات التي باشرها النائب العام وقتذاك -وكانت تتصل بنجله- وذلك بالضغط على الحكومة الأوكرانية لإقالته من منصبه ووقف التحقيقات، أم نبدأ بالحلقة الثانية وتدخل ترامب وطلبه من الرئيس الأوكراني دراسة الأسباب التي دعت إلى إقالة هذا النائب العام وإعادة فتح التحقيقات.
وسوف يؤدي ذلك إلى إثارة سؤالين: ما مؤهلات نجل بايدن التي أهلته لشغل مثل هذا المنصب وبهذا المرتب؟ وهل كان هذا التعيين بسبب تدخل ما أو رغبة من الشركة في التودد إلى نائب الرئيس الأمريكي؟ ويبدو أن الأمر لم يتوقف عند أوكرانيا، فقد فاجئ الرئيس ترامب الرأي العام الأمريكي بطلب أن تقوم الصين بالتحقيق في أحداث مماثلة.
وهناك سؤال آخر، ما الذي يدعو قادة الحزب الديمقراطي إلى الاستمرار في إجراءات التحقيق وجمع الأدلة في موضوع العزل رغم تأكدهم من أن الحصول على أغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ شبه مستحيل؟ أم أن هدفهم هو تشوية صورة الرجل، وذلك للتأثير سلبا عليه وعلى مرشحي الحزب الجمهوري أثناء الحملة الانتخابية؟ أم أن الديمقراطيين يعتقدون أن بدء إجراءات التحقيق سوف تؤدي إلى الكشف عن مراسلات ومكالمات أخرى تدين الرئيس، يؤكد هذا التوقع التطورات المتلاحقة ومنها أنه في يوم 11 أكتوبر الحالى طلب مجلس النواب رسميا من وزير الطاقة "ريك بيري" الإفصاح عن اتصالاته مع الحكومة الأوكرانية المتعلقة بموضوع التحقيق، وهددته بأن الامتناع عن تسليمها يعد تعويقا لدور المجلس في ممارسة سلطته الرقابية، وفي اليوم نفسه، تم القبض على اثنين من رجال الأعمال الأمريكيين -أحدهما من أصل أوكراني- بتهمة مخالفة قواعد تمويل الحملات الانتخابية وأنهما سهلا تحويل أموال من الخارج لهذا الغرض، وذلك بالمخالفة للقانون، وأنهما ساعدا جولياني -محامي الرئيس- في إقامة علاقات مع كبار المسؤولين الأوكرانيين. وفي اليوم التالي قدم وزير الأمن الداخلي "كيفن ماكالينان استقالته دون أن يُفصح عن أسبابها، يزيد احتمال الكشف عن معلومات جديدة الاعتقاد بأن إثارة موضوع المكالمة التليفونية هي من تدبير وكالة المخابرات المركزية التي قام أحد ضباطها السابقين بتسريب مضمونها، وإذا صدق ذلك, فإن هذا يعني أن فى الجعبة مزيدا.
ثم ما تلك "الحرب الأهلية" التي يهدد بها ترامب وأنصاره؟ واستشهاده بفقرات من أحد رجال الدين المتشددين التي تبرر تلك الحرب، فمثل هذا التهديد لا يتسق مع قواعد الديمقراطية، وتزداد خطورته مع معرفة أن لترامب قاعدة متينة من التيارات المسيحية المتشددة، وقوى اليمين المحافظ وجماعات العنصريين البيض والتي يحمل كثير منها السلاح، فهل يكون من شأن كلمات الرئيس تشجيع تلك الجماعات على استخدام العنف؟ أم أنه يستخدم ذلك لتخويف خصومه وردعهم؟
تعد مسألة احترام ترامب لقواعد ممارسة الديمقراطية من أكثر المسائل التي تؤثر على مصداقيته وشرعيته منذ أن تولى الحكم، مثل إصراره على تمويل بناء الجدار العازل على الحدود مع المكسيك رغم عدم موافقة الكونجرس على ذلك وتلاعبه ببنود الموازنة الاتحادية لتحقيق ذلك، وتهديده بأنه سوف يصدر الأوامر للحرس الوطني لإطلاق الرصاص على المهاجرين غير الشرعيين, وهو أمر مُخالف للقانون. وتصريحه بأنه يسعى لمعرفة اسم الشخص الذي أبلغ عن المعلومات الخاصة بالمكالمة التليفونية واتهمه بالتجسس رغم أن الإبلاغ عن انحراف قام به أحد ضباط المخابرات السابقين هو تصرف يقره القانون ويضمن حماية من يقوم به، وإعلانه عدم التعاون مع مجلس النواب في إجراءات التحقيق ثم قبوله ذلك بشروط، وادعاء أن ما قام به الكونجرس هو إجراء غير دستوري.
فإحدى الركائز التي يستند إليها النظام الأمريكي هي سلطة الكونجرس في الرقابة على البيت الأبيض، فالرئيس يتمتع بسلطات واسعة، ولكن عليه أن يمارسها في ظل متابعة الكونجرس ورقابته في إطار نوع من "تقاسم السلطة". ولذلك، فعندما يقوم الرئيس بعدم احترام هذه القاعدة فإنه يضرب الديمقراطية الأمريكية في مقتل، وكما كتب المعلق السياسي الشهير فريد زكريا في مقال له بجريدة الواشنطن بوست يوم 10 أكتوبر أن الكونجرس والمحكمة الاتحادية لا يمتلكان جيشا أو شرطة وأنهما يستمدان قوتهما من احترام الدستور والتزام الرئيس بالقواعد التي نص عليها، وهذا هو أساس العملية الديمقراطية، أما عندما لا يتم احترام القواعد التي تأسس عليها النظام فإن "الديمقراطية" يمكن أن تتحول إلى "طغيان".
يقوم قادة الحزب الديمقراطي بالمضي قدما في إجراءات التحقيق والعزل في ظل استقطاب شديد في الرأي العام, والتي تبين انقسام الجمهور الأمريكي بين مؤيد ومعارض لإجراءات العزل، هذا في الوقت الذي حقق فيه الاقتصاد الأمريكي معدلات نمو مرتفعة وانخفض معدل البطالة إلى 3.5% وهي أقل نسبة من 60 عاما.
فهل تقود الأحداث في الأسابيع والشهور المقبلة إلى كشف عن مزيد من المخالفات الدستورية التي ارتكبها سيد البيت الأبيض ومعاونوه ما يؤدي الى عزله؟ أم يؤدي تحسن الأوضاع الاقتصادية إلى نمو شعور بالتعاطف معه ويفوز هو وحزبه في انتخابات 2020؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة