تبدو الصورة قاتمة إن لم تبادر الهيئات الدولية والمنظمات العالمية إلى تخليص القيم الدينية مما علق بها عبر القرون من شوائب التعصب.
شهدت فرنسا خلال السنوات المنصرمة سلسلة من الهجمات الإرهابية وآخرها حادثة قطع رأس معلم مدرسة إعدادية إثر تلقيه طعنة أدت إلى قطع رقبته في إحدى ضواحي العاصمة باريس يوم الجمعة الماضي، جرّاء عرض المعلم على تلاميذه رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والاعتداء هو الثاني من نوعه منذ بدأت الشهر الماضي جلسات محاكمة شركاء مفترضين لمنفذي الهجوم الذي استهدف في كانون الثاني 2015م مكاتب مجلة شارلي إيبدو الساخرة، التي كانت نشرت رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد ما أطلق العنان لموجة غضب في أنحاء العالم الإسلامي.
وعلى إثرها اعتبر الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي والمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة أن هذه الحادثة تعد جريمة مروعة، لا تُمثل سوى النزعة الإرهابية الشريرة لمرتكبها، والمطالبة بنبذ العنف أيا كان شكله، واحترام المقدسات والرموز الدينية، والابتعاد عن إثارة الكراهية للمعتقدات الدينية، وإيجاد تشريع عالمي يجرم الإساءة للأديان وتحلي الجميع بأخلاق وتعاليم الأديان السماوية.
الحقيقة البارزة تدعونا إلى مزيد من التبصر وتفهم المواقف المتباينة وما آلت إليه ظواهر العنف الديني والفكري التي أحدثت شروخاً وحالات فوضوية وارتيابية في المجتمعات البشرية، ذلك يتطلب الابتعاد عن التعصب وتوسيع مساحات الحرية ومقاديرها ضمن ضوابط ووفقاً لضمانات واعتماد العدل ذلك ما يعزز القدرة على مواجهة موجات التطرف ومن ثم إزاحتها، فدعاة التطرف والغلو يستغلون التمييز الذي يبرز من خلال سلوك بعض المؤسسات السلطوية أو التفريط الذي يحكم بعض من لا يبالون بالقيم الإنسانية والدينية.
لنتمثل ما سعى إليه الأنبياء والرسل والمصلحون، فالرسالة الإسلامية آخر الشرائع الدينية صالحة لكل زمان ومكان وهدفها الأساسي حفظ الدين من أقوال المعتوهين وعدم الخوض في عصبيات مرفوضة ومذهبيات ليست من جوهر الأديان السماوية، فالإسلام يُراد به مجموعة من التعاليم التي أوحاها الله إلى أنبيائه ورسله، والإسلام ليس بجديد على الناس وهو المنهج الذي ارتضاه الله للناس جميعاً من أول الرسل إلى خاتم الأنبياء قال تعال: " إن الدين عند الله الإسلام" وقال: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين".
ولعله من المفيد الالتزام بأخلاقية الدين أي الالتزام بشريعة الله دون تفريط ولا غلو، وليس من التدين أن يتطرف الإنسان وأن يطلق العنان لهواه وحسب انتمائه لجماعته التي تتبنى حركات التعصب والانحراف البعيدة عن جوهر الدين، إنهم يريدون تأجيج النزاعات والفتن الطائفية والحروب على اختلاف دياناتهم ولذلك تحاول تلك الحركات التطرف وتوجيه طاقات أتباعهم على نحو سلبي عماده الإرهاب والعنف ضد الآخرين، لا سيما وأن التطرف يعطي صورة منفردة ومعاكسة عن الإسلام لا تتناسب مع سماحته وتؤدي إلى نتائج مسيئة وإشكاليات تتنافى مع رسالات السماء وتهدد الأمم برمتها إرهاباً وتدميراً.
التاريخ يذكر ما كان لتعاون المسلمين والمسيحيين في العصر العباسي من الآثار العظيمة في نشر العلم والثقافة، وكيف كان يجتمع المسلم والمسيحي وشخصيات من مختلف العقائد في حلقة الخلفاء ينثر كل واحد ما في كنانته من العلم والأدب، حتى أن الحلقات الشعبية والأدبية والعلمية كان يحضرها علماء على قدم المساواة في حرية التعبير واحترام الآخر، بصرف النظر عن ديانته وانتمائه المذهبي وعقيدته، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :" الأنبياء أخوة، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" وقال " ثلاثة من كن فيه فقد استكمل الإيمان واستوجب الثواب .. أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من أساء إليك" وقال السيد المسيح : ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" وقال المسيح عليه السلام: أحسِنوا إلى مُبغِضِكم وصَلّوا لأجل الذين يسيؤون إليكم ويطردونكم".
واليوم في عصر المعرفة الواسع ووسائل الاتصالات التي قربت بين الأمم والشعوب وجعلتهم أكثر تفاعلاً فيما بينهم، ذلك يتطلب الدعوة إلى أخلاق عالمية تقوم على العدل والإنصاف واحترام الحياة الاجتماعية والسياسية ، فالفساد طغى وأصبح مشكلة كبيرة لا سيما في العالم المتحضر الذي بات يقوم على الرياء والمتاجرة بالعقول وتشويه الحضارات الإنسانية.
وتبدو الصورة قاتمة إن لم تبادر الهيئات الدولية والمنظمات العالمية إلى تخليص القيم الدينية مما علق بها عبر القرون من شوائب التعصب والتمييز والتحجر لتعود صافية نقية كما أرادها الله ولن يتم ذلك إلا بفعل التحاور الفكري بين الديانات السماوية وترسيخ ما تتوصل إليه اللقاءات بين المفكرين ورجالات الدين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة