المراجعة الحديثة لمخاطر الأمن القومي في بريطانيا، حذرت من مخاطر انزلاق العالم نحو مأزق كبير يفرزه تعاون الصين وروسيا وإيران.
فهذا التعاون يهدد النظام العالمي القائم، ويهز ثباته المترسخ منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل ثلاث عقود. فهل من جانب إيجابي يحمله هذا التغيير، أم أن المساس بقيادة الغرب للكوكب لا يجلب الخير أبداً؟
المملكة العربية السعودية وافقت مؤخرا على المصالحة الدبلوماسية مع إيران بوساطة صينية. والتزام طهران بما تقتضيه هذه المصالحة من احترام لسيادة الدول، وحرص على أمن الشرق الأوسط بكامله، يعد ثمرة إيجابية لتعاون بكين وطهران وموسكو. وما تراه الرياض في هذا التعاون الثلاثي هو موضع تقييم من قبل أطراف عدة في المنطقة.
لا تنطوي المصالحة مع إيران على اعتراف ضمني بها كقوة عالمية يخشاها القاصي والداني. وإنما تعكس حرص السعودية، كدولة محورية في المنطقة والعالم، على أمنها وأمن جيرانها وأشقائها. فطهران لم تكن عاصمة سلام في الشرق الأوسط طوال العقود الأربعة الماضية، ولإن جنحت إليه اليوم، فالرياض لن تتردد في منحها هذه الفرصة.
ربما تكون الفرصة الأخيرة أمام إيران للتحول إلى دولة إيجابية في المنطقة. ولكن يخشى أن يفسدها امتعاض بعض عواصم العالم من تعاون طهران مع موسكو وبكين. فيدقون الأسافين في المصالحة الخليجية - الإيرانية. أو يخوضون في مواجهة مؤجلة مع إيران منذ سنوات بسبب برنامجها النووي الذي يبدو أنه ابتعد كثيرا عن طابعه السلمي.
مواجهة الأحلام الإيرانية بامتلاك سلاح نووي، لم تعد بعيدة كما كانت قبل أشهر فقط، وإنما أصبحت من أكثر الاحتمالات ترجيحا. ليس قناعة من الغرب بصواب تحذيرات دول المنطقة من هذه الأحلام وتداعياتها على الأمن والسلام العالميين، وإنما بسبب تقارب طهران وموسكو وبكين إلى حدود تبادل الدعم والتعاون العسكري في مجالات عدة.
والواقع، أن تحالف الدول الثلاث لا يضعها على قدم المساواة في التأثير. ولا يجعل من إيران قطبا يخشاه الغرب كما يخشى الصين وروسيا. فطهران من بين عواصم كثيرة تتبع مصالحها الاستراتيجية، وتحرص على علاقات جيدة مع موسكو وبكين. ليس لأنهما "تتحديان" أمريكا وأوروبا، وإنما لأنهما ترفدان العالم بسياساته واقتصادياته بالكثير.
جوهر القلق الغربي يكمن في تقارب روسيا والصين مع دول كانت تصنف حتى الأمس القريب، كمناطق نفوذ أمريكي أو أوروبي. وبغض النظر عن الأسباب التي استدعت مثل هذا التصنيف أو جعلته "قائما" أصلا، فقد حان الوقت لإعادة النظر في المفهوم بأكمله، والبحث عن صيغ غير تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ الدولة الفلانية أو القطب العلاني.
بشكل أو بأخر، يمضي العالم نحو إعادة تشكيل نفسه سياسيا واقتصاديا بصيغ مختلفة عما هو سائد اليوم. والتقارب الذي يكبر بين الصين وروسيا من جهة وإيران من جهة ثانية، يكبر مثله بين الدولتين ودول كثيرة في أسيا وأفريقيا، وحتى في أوروبا وأمريكا الجنوبية. وهذا التقارب لا يشكل خطرا على الغرب إلا بقدر ما يهدد تفرده بالقرار العالمي.
صحيح أن الغرب يتميز بقيم إنسانية وديمقراطية من الجيد نشرها. وصحيح أيضا أن الولايات المتحدة ودول القارة العجوز يمدون الاقتصاد العالمي بكثير من أسباب القوة والاستمرارية. ولكن هل هذا يقتضي هيمنة أمريكا وأوروبا على دول العالم؟ وهل يستعصي فعلا إيجاد صيغة تجمع بين الحضارة الغربية وخصوصية كل حضارة وثقافة أخرى؟
يتحكم الغرب بقرارات العالم وتوجهات دوله. ولكن هذا لن يبقى ثابتا إلى الأبد. تحاول روسيا والصين وآخرون تغييره بأدوات مختلفة، بعضها مناسب وبعضها ينطوي على ضرر. ولكن بشكل عام، أليس كل تغير كبير عرفته البشرية منذ بداية التاريخ، حمل جوانب إيجابية وأخرى سلبية، مهما كان ظاهره ناصع البياض أو شديد القتامة والسواد.
قد تكون الصين هي العنصر الأكثر فاعلية في معادلة التغير العالمي القادم، ولذلك يراها رئيس وزراء بريطانيا "التحدي الاستراتيجي الأبرز" لبلاده خلال الفترة المقبلة. ولكن هل تستطيع بكين بمفردها تحقيق اختراق في النظام الدولي دون تعاونها مع عواصم عدة في القارات كافة؟ وهل تتقارب الدول مع الصين رغما عنها، أم استجابة لمصالحها؟
سوناك يقول في المراجعة الجديدة للسياسة الخارجية، إن المملكة المتحدة لن تمارس الخصومة العمياء مع الصين. لن تعلن العداء الصرف لها وتغلق أبواب الحوار معها في مجالات وقنوات مختلفة. وهذا توجه يشبه موقف دول عديدة في الاتحاد الأوروبي، تشعر بأن الولايات المتحدة توظف التحالف الغربي لصالح تفردها بالقطبية الوحيدة في العالم.
دول عديدة تشعر بذات العبء، وتعتقد أن الولايات المتحدة تفرض عليها الاصطفاف مع سياسات البيت الأبيض ودعم المصالح الأمريكية، بغض النظر عن مصالحها الوطنية والقومية. لذلك اختارت هذه الدول مؤخرا توسيع دائرة تعاونها مع روسيا والصين. وراحت تبحث عن تفاهمات دولية أوسع وأكثر رحابة بكثير من "التحالف" الضيق مع واشنطن.
يقول رئيس الوزراء الأشهر في تاريخ بريطانيا ونستون تشرشل، إن "في السياسة ليس هناك عدو دائم او صديق دائم، هناك مصالح دائمة". تحرص جميع الدول على اتباع هذه القاعدة في علاقاتها الخارجية، ليس من باب الرغبة بالتغيير، وإنما حرصا على مواكبة تغييرات كبيرة قد تطرأ على العالم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو حتى طبيعية.
تعاون الصين وروسيا مع إيران تصفه بعض دول الغرب بـ "تحالف الشيطان". ولكن الغرب يكترث لعلاقات بكين وموسكو مع الجميع. فأمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي يتعاملون مع قطبية الغرب عالميا بحرص شديد. هم يعرفون أن التغيير قادم، ولكن كما يقول القائد الفرنسي نابليون بونابرت "البطولة تكمن في التفوق على المصيبة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة